الطريق الوحيد معالم الأسرة الصالحة رحلة الأربعين تعرف علینا بقلم استاذ البريد الكتروني فیسبوک تويتر انستقرام تلغرام

جديدنا

۹۹/۱۱/۲۶ چاپ
 

 

دور الأبطال في تربية الناس، خصوصًا الأطفال والمراهقين + ترجمة صوتیة

المدت: 28 دقیقة | تنزیل (19MB)

من بين الفضائل جميعاً، "القوة" هي المؤشر لجميع الصفات الحسنة والخطاب الراقي

يركز الكثيرون في المجال التربوي على الإيمان والعقائد فقط ويحاولون تقويم الاعوجاجات جميعًا بالأدوات العقائدية، هذا والقرآن الكريم يقول: «كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شاكِلَتِه» (الإسراء/84)؛ أي كل يتصرف بما يمليه عليه خُلقه وطبعُه وشخصيته؛ ما يعني أنه لا بد، من أجل تربية الناس، من الاهتمام أيضًا بشخصياتهم وصفاتهم الروحية لأنهم، عمومًا، يتصرفون على هذا الأساس. فإن من المتعذر تقويم الإيمان بالتلقين والقوة والضغط. فلنعمل أولًا على تقويم صفات الإنسان الأساسية، التي يكون على استعداد للمثابرة لاكتسابها، وستتسع – تلقائيًّا - الأرضية لقبول الإيمان، أو يكون هذا المقدار الضئيل من الإيمان، الذي يملكه الجميع تقريبًا، مؤثّرًا وبإمكانه إنقاذ صاحبه.

والسؤال حاليًّا هو: على أي الصفات والفضائل الإنسانية نركز في عملية التربية؟

أساسًا لو نُظر إلى كل واحدة من فضائل الإنسان نظرة كاملة سليمة عميقة لما وُجد بينها وبين باقي الفضائل فرق، بل لما أمكن القول إن هذه الفضيلة لازمة للأخرى وبالعكس، فهما ليستا اثنتين، بل هما وجهان لعملة واحدة، أو عدة وجوه لمنشور واحد؛ فالرحمة، بمعناها الأصيل والعميق – مثلًا - هي الوجه الآخر لعملة القوة، وإن قوة الإنسان ورحمته هما الوجه الآخر لعملة تواضعه. أما التواضع والرحمة والقوة فهي الوجه الآخر للحقيقة التي نعرفها باسم "العقل".

ومن بين الفضائل جميعًا، فإن فضيلة "القوة" بالنسبة إلى الفرد، أو خطاب "القوة والشجاعة والعزة" بالنسبة إلى المجتمع هو الموضوع الأهم والأبرز. فإن على الآباء والأمهات، قبل كل شيء، أن يُرَبّوا أولادهم أقوياء ويحفظوا هذا المؤشّر فيهم، ثم ليغرسوا فيهم - بعد ذلك - ما شاؤوا من التعاليم في حاشية هذه الصفة.

فالقوة مَعلَم ومؤشر لجميع الصفات الحسَنة، كالسرور والنشاط مثلًا؛ فهذا أمير المؤمنين(ع) يَعُد السرورَ ثمرة للقدرة، إذ روي عنه: «أصل‏ العقل‏ القدرة، وثمرتها السرور» (ميزان الحكمة/ ح8639). فمن هو المسرور يا ترى؟ إنه الذي لا ينتابه القلق، لأنه قوي! أما الباقون فيحاولون إدخال السرور إلى أنفسهم بالتسالي العبثية، التي سيعودون بعدها إلى الضجر والكآبة حتمًا. ونفهم من الحديث المذكور نفسه أن الإنسان الضعيف هو ناقص العقل.

وإذ يوصينا أهل البيت(ع) بتأديب الطفل فلأن الأدب يُورِث القوة، بل بإمكاننا أن نقول:  إن الأدب هو الاسم الآخر للتقوى؛ فالتقوى تكلّف المرء بمجموعة من الآداب. وهذا رسول الله(ص) يقول في ما رُوي عنه: «مَن اتّقَى اللهَ عاشَ قويًّا» (الدعوات للراوندي/ ص292). المهمة الأخرى التي يتولاها الأدب هي أنه يضبط الطفل كي لا يفعل كل حين ما يحلو له؛ فعن الإمام علي بن أبي طالب(ع) قوله: «أقوَى الناس مَن غلبَ هواه» (غرر الحكم/ ص197). فإن أردت مدح شخص أو قوم فانظر مدى قوتهم، وكم هم أقوياء الروح؟ فالقوة والشجاعة هما المؤشر لباقي الفضائل والمصدر لها في آنٍ معًا.

ذُكرَت في مستهل "وثيقة التحوّل الجذري في نظام التربية والتعليم" (بالفارسية "وثيقة التحول الجذري في نظام التربية والتعليم" هي وثيقة تحوّل استراتيجي أُعدّتْ بما ينسجم مع أُسس الرؤية العشرينية لنظام الجمهورية الإسلامية للنهوض بالواقع التربوي والتعليمي في إيران) أكثر من ثلاثين فضيلة كأهداف تربوية ضخمة يتوجب على الطالب أن يتحلّى بها. وكل هذه الصفات صفات حميدة، وقد أُشير إلى القوة إيضًا بتعبير مختلف، لكنّ عدم اتخاذ الوثيقة من القوة المؤشّرَ الأبرز يُعَد نقصًا فيها؛ فالقوة ليست "واحدة" من الصفات الحميدة، بل هي أصلُ معظمها.

فالإنسان الضعيف غالبًا ما يكون عديم الرحمة؛ كالشخص إذا سقط في الماء وهو لا يُحسن السباحة، فمع أنه يختنق وبحاجة إلى من ينقذه تراه إذا طالت يدُه منقذًا بحريًّا أغرَقَه واستعان به للصعود إلى سطح الماء، لأنه ضعيف، والضعيف قد يكون قاسيًا. ولهذا يُنصَح المنقذ البحري أن لا يضع نفسه في يد الغريق، لأن الأخير يحاول دومًا الالتصاق بالمنقذ ويعرّضه هو الآخر للخطر.

معسكر أبي  عبد الله الحسين(ع) كان معسكرَ أقوياء، أما أفراد المعسكر المعادي فقد كانوا ضعفاء قُساة. في كربلاء كان الخوف المشحون بالضعف، والذي تحوّل إلى حقد، قد جعل كل من تمكّن من الرقاب يقترف من الفضاعة وأشكال الجريمة الكثير، بل ولا يرحم حتى الطفل. أوَهكذا يقاتل القوي؟ إن القوي، بالمعنى الحرفي للكلمة، لا يكون لئيمًا وضيعًا، وهو إن اشتعلتْ حرب فإما أن يقاتل برجولة، أو يصفح برجولة.. إنه لا يتحيَّن كل فرصة للفتك بخصمه، ولا يُفرِغ فيه حقدَه، لأنه قوي.

لغة القوة هي لغة الدين الأساسية

إن علاقة الدين بالإنسان تبدأ من منطلق القوة؛ فالإنسان بحاجة إلى قوة يستند إليها، وإن مَيلًا عارمًا يجتاحه إليها من أجل التخلص مما يعتريه من أشكال الضعف والهوان. ولهذا فإنه إذا لم توجَّه رغبةُ الإنسان في القوة هذه الوجهة الصحيحة فسيفتش عن القوة في المنحى الباطل. فإنك إن التحقتَ بالدين من منطلق حاجتك الحقيقية إلى أن تكون قويًّا فسيزوّدك الدين بمنهج يجعلك من القوة ما لا تشعر معه بالحاجة إلى ظلم الآخرين، حتى تبلغ المقام الذي تصبح فيه من أصحاب الإمام صاحب الزمان أرواحنا له الفداء.

الطفل أيضًا يبدأ من نقطة النزوع إلى القوة، وإن ألعابه مصحوبة بحب القوة؛ أي إنه يفهم لغة الدين. فالقوة – أصلًا – هي اللغة الأساسية للدين؛ فالدين يسعى إلى جعل الإنسان قويًّا. لنتساءل: لماذا ابتدأ النبي الأعظم(ص) منهاجه النبوي بالجهاد؟ لأنه أراد أن يبني الإسلام. ولا يعني هذا أن الدين من جنس السيف، بل هو من جنس القوة، والقوة تُكتسَب أفضل وأسرع وتَتّخذ وجهتها الصحيحة من خلال القتال والجهاد في سبيل الله.

والآن كيف لنا أن نعلّم الأطفالَ الدين؟

لنعلّمهم إياه عبر لغة القوة هذه، لغة الدين الأساسية. أي إن تعليم الأطفال الدينَ منذ الصِبا أمر ممكن. لكن البعض يتساءل: كيف يمكن للطفل أن يتصوّر الله؟ وكيف له أن يدرك المعاد والوحي ونور النبوة والإمامة؟ فيظن أمثال هؤلاء أنه لا بد – أولًا - أن يعالجوا مسألة إيمان الطفل بالغيب! وإن البدء بأصول العقائد عند الحديث إلى الطفل عن الدين هو خطر كبير، وإن السبب وراء معظم حالات العزوف عن الدين في المجتمع وكون الدين لا يروق لمعظم الشبّان هو الطرق الخاطئة التي نتّبعها في تعليمهم الدين. فأول ما ينبغي أن نتحدث إلى الطفل عنه بخصوص الدين هو موضوع "القوة"، بالطبع باللغة الطفولية التي يفهمها.

إن لغة القوة، وهي الاستقواء روحيًّا، هي اللغة الأساسية للدين، وهي المؤشّر على نجاح الفرد أو الجماعة في عملية التربية الدينية أو التربية الإنسانية السليمة. معيار النجاح في مرحلة الدراسة الابتدائية يجب أن يكون: هل تخرّج المراهق من الابتدائية قويًّا أو لا؟

النزوع إلى القوة موجود في الطفل بالفطرة وهو أفضل فرصة لتعريفه بالله

الأطفال، وهم في منتهى سلامة الفطرة، يفتّشون في القصص عن قوة عظمى وأبطال عظماء يحامون عن البشر، ويحلّون كل معضلة. وقد أُلّفت أقاصيص وأُنتجت أفلام متحركة عديدة على هذا الأساس. وإن نزوع الأطفال إلى القوة هو نزوع محبَّذ، فطري، وهو فرصة ذهبية لتربية الطفل، وتوضيح الدين له، وتعريفه بالله عز وجل. وإن الطفل، في واقع الأمر، يفتش، أثناء مراحل طفولته ومراهقته المختلفة، عن قوة تفوق والديه وما بعد والديه، ليتخذها سندًا له.

وإن لم تُلَبَّ هذه الحاجة أثناء سنين الطفولة فسيتعرّض المرء إلى ضربات مهلكة؛ منها أنه سيشيّد حياته كلها على أُسس من الخوف؛ بدءًا من "الخوف من المرض" وهو الشائع هذه الأيام، وصولًا إلى "الخوف من الفقر"، و"الخوف من الموت"، وهي مخاوف أصبح الكثير منها الدافع لحياتنا العادية. فنحن لا نرى من القبيح أبدًا أن يواصل الطالب تحصيله الدراسي بدافعٍ من الضعف ومخافة أن يظل في المجتمع عاطلًا عن العمل ولا يهتم به أحد. وإن الكثير من سلوكيات الأشخاص الأخلاقية والمنضبطة نابعة عن المخاوف العبثية وأشكال الضعف.

مرحلة السابعة من العمر، وما قبلها وبعدها بقليل، مرحلة حساسة للغاية، وهي حين يتحتم على الطفل أن يكتشف قوة بديلة تحل محلّ والديه، اللذَين كان يتصورهما القوة المطلقة. والفرق بين مرحلة البلوغ والطفولة هي أنك تدرك، أكثر بألف مرة: "أنني متعلق "الله" عوضاً عن تعلّقي بأبوَيّ"، وتعرف "أن تعلّقي بالله الآن أشد بكثير من تعلّقي بأبوَيّ وأنا طفل". وكل شخص يفتقد إحساس اللواذ بالله هذا فهو إنسان جاهل، وإن أي طفل يدرك - أكثر من هذا الشخص - أن الله يجير الإنسان.

ويجب العمل لدى تربية الطفل على وصله بهذه القوة العظمى. إن حب الطفل أقاصيصَ من مثل علاء الدين والمصباح السحري؛ وهو أن يظهر من المصباح مارد يحقق له كل أمنية، يعني أنه يفتش عن الله سبحانه وتعالى. فالله فقط هو الذي يمكنه أن يفعل له ما يشاء. وفي الحكايات التي يحبها الأطفال ويتابعونها يوجد دائمًا منقذ بطل قوي تفوق قوته كل قوة؛ بدًءا من مارد المصباح السحري ووصولًا إلى الرجل العنكبوت، أو أي شخصية أخرى. وإن متابعة مثل هذه الأقاصيص وحبها يمثل غاية البحث عن الله عند الطفل. وما الدين إلا المنهاج الذي يوصل الإنسان إلى مصدر القوة والسلطة.

هل نستطيع أن نصنع للأطفال من "القائد سليماني" رمزًا ينجذبون إليه؟

يخطئ الكثيرون إذ يتصورون أن عرض الدين على الأطفال صعب، فلغة الدين أساسًا هي لغة الأطفال. لاحظوا سلوك الأطفال حوالَي سن العاشرة؛ بماذا يَهْجُون بعضهم البعض؟ ما الذي يُشعِرُهم بالمرح؟ إنهم يشعرون بالمرح عندما يتحدثون عن قوة آبائهم. صحيح أنهم يختلقون الأقاويل لذلك، لكن متعتهم هي في هذا. فاللذة التي تكون عند الشباب في الشهوة، تتمحور عند المراهقين حول موضوع القوة. المراهق ما زال طاهرًا، فلا نفسدَنَّه، لندعه يسير على المنوال ذاته. هذه أمور في منتهى الأهمية. أَوَليس الدين فطريًّا؟ الله تعالى يقول: «فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» (الروم/30). أليس الدين مناسبًا لبُنيتي وتركيبتي ومنسجمًا معهما؟ فما الذي كنتُ أصبو إليه منذ الطفولة؟ لقد كنتُ أصبو إلى القوة. إذن لو جاء الدين بشيء آخر فهو خطأ، بل ليس هو بدين أصلًا.

في إحدى المناسبات زرتُ الصف الأول الابتدائي في إحدى المدارس. سألتُ التلاميذ: يا أولاد، من منكم يحب أن يكون أقوى؟ فصاح الجميع: "أنا يا سيدي! أنا يا سيدي!" فقلت لهم: تريدون أن تكونوا أقوى مثل مَن؟ فذكَروا "بات مان" وأمثاله. وهذا طبيعي؛ فالأطفال مَهووسون بموضوع القوة لكننا للأسف لم نصنع لأطفالنا، في أفلامنا المتحركة، شخصية مثل "بات مان"، ثم نتوقع أن تستقيم  عقائدهم! لقد أخطأنا إذ لم نضع خطة سليمة لنظام التربية والتعليم الخاص ببلدنا. لاحظوا بأي شيء هذا الطفل مولَع؛ الصهاينة يزوّدونه بالمادة التي يحبها بالطريقة التي يشاؤون. إنهم يسعون إلى حَرف صفة النزوع إلى القوة لدى الطفل عن مسارها الصحيح عبر صناعة القدوات له. علينا أن نهتم بهذا النزوع إلى القوة عند الطفل فنصنع له القدوة المناسبة. فهل باستطاعتنا صنع رمز لقائد إيران البطل "الشهيد سليماني" ينجذب إليه الأطفال قبل سن الابتدائية؟ هل نملك فنًّا كهذا؟

تفاعَل الناس مع القائد سليماني ومالوا في مدرسته بسبب قوته

ما الذي جعل الناس يميلون إلى القائد سليماني؟ إنها ميزة "القوة" عنده. لقد كان القائد سليماني مظهرًا للمَنَعة والقوة، كان بطلًا. لقد تفاعل الناس معه بسبب حبهم لهذه المدرسة، وقد وضعوا مواقفهم السياسية والثقافية والدينية جانبًا لدى تعبيرهم عن حبهم واحترامهم له. لاحظوا كيف يمكن التحدث بهذه اللغة؟ حينما دَكّتْ قواتُنا مركزَ قيادة الدواعش في سوريا بالصواريخ فرح حتى المناوئون للثورة. هذه هي أدبيات الثورة. وهي ذاتها الأدبيات الرئيسة للدين؛ وهي الأدبيات نفسها السارية في المدرسة، وفي المجتمع، وفي الشارع. فنحن كمجتمع نريد أن نكون أقوياء كي لا يتغطرس علينا أحد؛ فلا نريد أكثر مما أنجزناه بسواعدنا من أننا استطعنا التخلص من نِير القوى الكبرى في رقبتنا. فحسبنا أن نزيد هذه القوة على صعيد الاقتصاد لنقف بوجه هشاشة اقتصادنا الذي تريده القوى الكبرى، وسنحقق باقي المنجزات تباعًا. (لقد قوينا، إلى الآن، من الناحيتين السياسية والأمنية وغدونا مستقلين إلى درجة أننا لم نعد - من هذه الجهة - تبعًا للقوى الكبرى ولا عرضة للضرر من ناحيتها. وعلى الصعيد الثقافي فإننا أقوياء، إلى حد ما، ولدينا استقلال ثقافي، هذا إذا كفَّتْ بعض التيارات عن العبث. فلو قَوينا وبلَغنا الاستقلال على المستوى الاقتصادي فسنكون قادرين على بناء مجتمع نموذجي على كافة الأصعدة. وليس الاستقلال الاقتصادي بأن نقطع علاقاتنا الاقتصادية مع العالم، بل أن نبلغ في المجال الاقتصادي من القوة ما يحصّننا، إلى حد ما، بوجه الأحقاد الخارجية).

إننا أحيانًا، وبذريعة إعطاء درس في الأخلاق - وهو الضروري جدًّا في محله - ندعو الناس، بمنطق في منتهى الخطأ، إلى «الطِيبَة المقرونة بالضعف». على المعلم في المدرسة والإمام في المسجد أن يَحذرا من دعوة الطفل إلى القيام بعمل صالح من منطلق الضعف، أو أن يصبح المأموم في المسجد إنسانًا طيّبًا بدافع الضعف؛ فلا جدوى من هذه الطبية وهذا الصلاح.

إن الميزة التي جعلَت الناس تُبدي تجاه الشهيد القائد قاسم سليماني رَدة فعل تفوق العادة هي قوته، وهي التي استعرضَت قوته الروحية، على أرض الواقع، في أشد اللحظات حرجًا. فهناك أشخاص أقوياء آخرون مثل الشهيد سليماني إلا أن تجلّي قوتهم للناس ولمس الناس لها لم يكن بهذه البساطة. لقد أُتيح للشهيد سليماني ميدانُ قتال، ولقد أبدى هو في هذا الميدان – الذي يمكن أن يكون موضعًا لبروز نقاط ضعف كثيرة عند الرجل ومبالغته بالاحتياطات التي في غير محلها – أبدى شجاعة فائقة، وهذه القوة لا بد أن تصنع للمرء المحبوبية كائنًا من كان. نعم قد يحظى الأشخاص بالمحبوبية لأسباب أخرى؛ فقد يكون المطرب الحسَن الصوت محبوًبا، غير أن محبوبية القائد سليماني هي من نمط آخر، وهي في منتهى العمق.

ارتباطنا بملحمة عاشوراء قائم على "خطاب القوة"

الكلمات والمفاهيم التي تولّد خطاب القوة هي "العزة" من ناحية، و"الصبر" من ناحية أخرى، و"الشجاعة" من ناحية ثالثة، وهي مفاهيم من جنس مفهوم القوة. فلو لم يقاتل الإمام الحسين(ع) في كربلاء بكل تلك البسالة والقوة لقلَّت – في أغلب الظن - مآتم العزاء التي تقيمها أنت لأجله مع كل ما تحمله لأهل البيت(ع) من روحانية ومحبة! قد لا تذكُر أنت لفظة القوة على لسانك، وقد لا تنعكس هذه اللفظة كثيرًا في قصائد اللطم، غير أن ما يشكّل هيكلَ ارتباطنا بملحمة عاشوراء، والذي تعكسه كلمة "الملحمة" نفسها، هو خطاب القوة؛ وهو حين يكون شعار الإمام الحسين(ع): «هَيهاتَ مِنّا الذِلَّة»؛ أي: إنني أموت في سبيل عزتي. ولا يمكن تحليل هذا الشعار إلا عبر منطق خطاب القوة.

فلو أردنا رفع مستوى انتفاعنا من العزاء الحسيني ألف ضِعف فعلينا أن ننقل العزاء من العاطفة المحضة، إلى خطاب القوة. ولا أقول: فلنسكت عن الكلام على حب الإمام الحسين(ع)؛ فالحب والعشق هو زيت هذا المحرّك الذي لولاه لما اشتغل المحرك أصلًا، لكننا إنْ خفَضْنا الكلام في قصائدنا ولطمياتنا على قوة الإمام الحسين(ع) وشجاعته وعزته لتراجعَت درجة استفادتنا من العزاء.

شجاعة الإمام الحسين(ع) في الطف لم يكن لها مثيل؛ لقد اجتاز أربعة آلاف من الجند، كانت مهمّتهم محاصرة شريعة الفرات فقط، وبلغَ الشريعة. يا ليت الذين يتلون الشاهنامة ويقصّون حكاياها يقصّون حكايا قتال الإمام الحسين(ع) أيضًا، أو يروون واقعة عاشوراء بأسلوب حماسي بطريقة "مَسرح السِتار" (بالفارسية "پرده خوانی" وهو عرض يقُص فيه الراوي مصائب الأولياء من على صُوَر منقوشة على ستار خلفَه بإيقاع ولحن خاص) كما في قديم الزمان. يا ليت فنانونا يشتغلون على هذا الأمر فيوضّحوا للأطفال عنصر الشجاعة في شخصية الإمام الحسين(ع). فليس من الضروري أن نجعل الأطفال يبكون لمصائب عاشوراء، بل ليس المطلوب منهم في طفولتهم غير معرفة قوة الإمام الحسين(ع).

لا بد أن نشاهد الناجحين ونقرأ عنهم كي نتبيّن الطريق

لا بد أن نلمس حقيقة "القوة الحقيقية" وعظمتها، ليس من خلال مشهد واحد، بل ألف مشهد، وألف أنموذج وإطار، وفي كل ناحية من نمط حياتنا. إن بعض مفاهيم مدرسة الإمام الخميني(ره) لا تُدرَك من دون مدرسة الشهيد سليماني، وإن بعض مفاهيم مذهب التشيع لا تُدرك من دون مدرسة الإمام الخميني(ره)، بالضبط كما لا يمكن إدراك حقيقة القرآن الكريم من دون أهل البيت(ع). فأهل البيت(ع) لا ينطقون إلا القرآن، وإنّ كل أقوالهم وأفعالهم هي تفسير للقرآن الكريم. إن من غير الجائز أن نفصل القرآن عن العترة؛ فأهل البيت(ع) هم معاني القرآن نفسها تجلّت على أرض الواقع. وإذا ما أرادوا(ع) توضيح أمرٍ ما لنا، لجَؤوا هم أيضًا إلى توضيحه عبر سلوك أصحابهم؛ ولهذا فإن حب أصحاب أهل البيت(ع) الصادقين المخلصين - من مثل سلمان، والمقداد، وأبي ذر، وعمار، وغيرهم – واجب كحب أهل البيت(ع) أنفسهم؛ ففي الخبر: «الْوَلَايَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ يُبَدِّلُوا بَعْدَ نَبِيِّهِمْ(ص) وَاجِبَةٌ مِثْلِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَ...» (الخصال/ ج2/ ص607). فهؤلاء هم جزء من هذه الحقيقة ولا بد أن نراهم.

إنك تحتاج أحيانًا إلى "مشاهدة" عمل ما لكي تدرك ذلك المفهوم، وتحتاج أحيانًا أخرى إلى "إنجاز" هذا العمل كي تدرك ذلك المفهوم. فإنّ فَهْم بعض الأشياء يتطلب "التجربة"؛ لا على أنّ التجربة أَولى، بل لا يحصل الفَهْم أساسًا من دون التجربة. ولهذا فإن الذي يعمل، وبشكل سليم يصبح صاحب "مدرسة". وهاهنا تبدو لنا أهمية مدرسة الشهيد سليماني. وإن الله تعالى يفعل الشيء ذاته؛ فهو سبحانه كثيرًا ما يطرح المفاهيم النظرية في إطار قَصّ حكايا سلوكيات أوليائه، ويوضح المفاهيم المرتبطة بمعسكر الأشقياء أيضًا من خلال ذكر سلوكياتهم وردود أفعالهم تجاه الحق. ولهذا يُكثِر القرآن الكريم من قَصّ القصص حتى ليُمكن عَدّ البحث حول الأنبياء والأولياء من موضوعات القرآن الرئيسة، وهي قضية في منتهى الأهمية وذات مغزى. إذن في المصاديق العينية وفيما تجلّى من السلوكيات، القرآن الكريم هو الآخر يقصّ علينا الأقاصيص.

يجب أن ندرس الأشخاص. فالناجح على مستوى العمل تجري في سلوكه حِكَم غزيرة، ويحمل قراءات سليمة للكثير الكثير من القضايا. وإن العلماء أيضاً هم بحاجة إلى مشاهدة هذه القراءات السليمة على مستوى التطبيق ودراستها، فلا يُعثَر على بعضها حتى في الكتب. فعندما نتحدث عن "مدرسة الشهيد سليماني"، وحينما يوصي قائد الثورة الإمام الخامنئي (دام ظله) بضرورة النظر إليه على أنه "مدرسة"، فهذا ليس مجرد عمل إعلامي هدفه تحفيز النفوس، بل هو عمل تعليمي. فإن الكثير من الأمور ينبغي رؤيتها على صعيد التطبيق. فنحن نريد أن نرى مثلًا: كيف طبّق الشهيد سليماني "عنصر الإخلاص" على أرض الواقع؟ لا بد أن نسعى لمشاهدة ذلك.

سماحة آية الله العظمى بهجت(ره)، الذي كان - حتى في درس بحثه الخارج ومباحثاته العلمية يهتم غاية الاهتمام بسرد سِيَر العلماء والعرفاء لطلاب - كان يرى أن أثر قراءة سِيَر أمثال هؤلاء العظام وأحوالهم يرقى إلى أثر الكتب الأخلاقية المعتبرة، ويقول: «الرجوع إلى تراجم علماء السلف هو بمنزلة الرجوع إلى الكتب الأخلاقية المعتبرة. فينبغي لكل طالب تهذيبٍ ورُقِي معنوي يريد الإفادة من سِنِيّ عمره أن يتصفح سِيَر هؤلاء وتراجمهم ليرى ماذا صنعوا» (در محضر بهجت (في حضرة الشيخ بهجت)/ ج1/ ص109). كما كتب ردًّا على استنصاح جمعٍ من المؤمنين إياه: «راقِبوا أعمال مَن تؤمنون بهم؛ فافعلوا اختيارًا ما يفعلون، واتركوا اختيارًا ما يتركون، وهذه من أنجع سبل بلوغ المقاصد العليا؛ «كونوا دُعاةً  إلى الله بغير ألسنتكم» (به سُوىِ محبوب (نحو المحبوب)/ ص33). وفي كلام مهم قال قائد الثورة الإمام الخامنئي (دام ظله) لدى لقائه بالمجلس الأعلى للحوزة العلمية بقم المقدسة: «في ما يخص التهذيب فإن الأعمال الجارية، وفق التقارير الواصلة إليَّ، ليست أعمالًا تهذيبية... بالطبع حفظ القرآن الكريم والأحاديث جيد، لكن هذه الأمور - إذا ما توخّينا الإنصاف - ليست تهذيبًا... أرى أن تحثّوا قسم التهذيب على التفكير في شيء آخر. على سبيل الفرض: من الإجراءات المؤثِّرة جدًّا الحديث عن سيرة عظماء التهذيب والأخلاق وأحوالهم. فليؤلّفوا في هذه المواضيع الكتُب وليوزّعوها بين الطلاب... هذا هو الحل؛ وهو وَصْل الطلاب بينابيع الأخلاق والمعرفة هذه وبأهل المعنى، والذكر، والخشوع؛ وإلا فما من جدوًى أبدًا في درس الأخلاق الاحترافي... [وهنا يروي قائد الثورة قصة عن حياة السيد القاضي(ره)، ثم يعقّب]: هذا هو وضع حياة السيد القاضي(ره). هذا ما ينبغي سرده على طلاب الحوزة، فإن تأثيره عظيم (لدى لقاء أعضاء المجلس الأعلى للحوزة العلمية بقم؛ في 27/ تشرين الأول/ 2010).

انظروا كيف أصبح الشخص الناجح ناجحًا؟ ما القراءات التي خرج بها بخصوص المهامّ المناطة إليه؟ حتى القرآن الكريم حينما يروي لنا قصص الأنبياء بهذه السعة والكثرة فهو يعني أن عليك أن تُمعن النظر في كل ما صنعه أولئك الذين سلكوا هذا الطريق.

ذات مرة في أيام الدفاع المقدس أجرَوا معي لقاءً فسألوني: ما الذي يفعله طالب الحوزة في الجبهة؟ أجبتُ: طالب الحوزة في الجبهة يتحدّث إلى المجاهدين عن الله، فإن عاد من الجبهة تحدّث إلى الناس عن المجاهدين. ففي الجبهة قد تجلّى الله ولا بد من شرح أثره للناس. هذه هي الطريقة لتعليم الدين. وهذا ما يسمونه: "المدرسة العملية"؛ وهو ما نحن بحاجة إليه على صعيد الفهم أو التمتع بالحكمة. ولطالما تألّمتُ لأن حقبة الدفاع المقدس ظلّت غريبة.

يقول قائد الثورة (دام ظله) بخصوص الثقافة التي كانت جارية بين المجاهدين إبان الدفاع المقدس وضرورة الانتفاع منها: «لا بد لسِنِيّ الحرب الثماني تلك أن تغذّي تاريخنا... إنها كنز. هل سنستطيع استخراج هذا الكنز يا ترى أو لا؟ إنجازنا هو في أن نستخرج هذا الكنز؟» (لدى لقائه مسؤولي مكتب فنون المقاومة وأدبها؛ في 16/ تموز/ 1991). ويقول أيضًا: «سنوات دفاعنا المقدس الثماني لم تكن مجرد امتداد من الزمن أو حقبة زمنية فحسب، بل كنز عظيم في وسع شعبنا الإفادة منه حِقَبًا من الزمن؛ يستخرج منه، ويستعمله، ويستثمره» (لدى لقائه الناشطين في المجال الفني الخاص بالدفاع المقدس؛ في 15/ أيلول/ 2009).

تعليق