الطريق الوحيد معالم الأسرة الصالحة رحلة الأربعين تعرف علینا بقلم استاذ البريد الكتروني فیسبوک تويتر انستقرام تلغرام

جديدنا

۰۱/۰۶/۰۳ چاپ
 

تحمّل المسؤولية والاستقلالية أهم مؤشرات الولائية (المحاضرة 2)

كيف تتسنّى الاستقلاليّة مع التبعيّة المحضة لله؟!/ الإخلاص هو أن لا تتأثّر بأيّما شيء وأن تكون مستقلًّا/ لا يريد الله أن يَصلُح أحدٌ متأثّرًا بالجوّ العام دونما استقلاليّة

الهويّة:

  • المكان: كلية الإمام علي(ع) الحربية، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)

  • الزمان: 01/ محرم/ 1443 - 10/ آب/ 2021

  • A4|A5 :pdf

إذا ألغى فردٌ أو مجتمعٌ عزّته فلا يعود عرضُ الدين عليه ممكنًا

  • ذكرنا في المجلس السابق أنّ خطاب عاشوراء الأساسي هو التأكيد على العزّة؛ بَذْلُ النفس صَونًا للعزّة، وفداء الأصحابِ الحسينَ(ع) بأنفسهم حفظًا لعزّة الإمام(ع)، وتضحية الإمام(ع) بنفسه لئلّا يرضخ للذُلّ. هناك اختلاف دقيق بين الظلم والذلّة؛ فالإنسان لا يرضخ للذُلّ أبدًا، لكنّه قد يتحمّل الظُلامة – أحيانًا - لبعض المصالح. فالعزّة شيء سامٍ للغاية.
  • والعزّة أعلى قيمة إنسانيّة إذا ألغاها امرُؤٌ أو مجتمع من قاموسه لن يعود بالإمكان عَرضُ الدين عليه؛ العديد من أجزاء الدين الأساسيّة لن تعود تنفع هذا الفرد أو المجتمع، لأن أكثر أجزاء الدين الأساسيّة تهدف إلى حفظ هذه العزّة. فحين يُفرّط مجتمع بعزّته، أو عندما لا يحسب امرؤ لعزّته حسابًا فهذا يعني أنّه مُستعِدّ لأن يكون عبدًا، ويصبح ذليلًا، وإنّه سيكون عبدًا لغير الله!

الطاغوت والاستكبار يذهبان بعزّة الناس

  • إنّ فرعون يستخفّ قومَه ويُذلّهم كي يجعلهم مطيّته؛ قال تعالى: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوه» (الزخرف/ الآية54). وإنّ حَثَّ الله عز وجل الناسَ على اجتناب الطاغوت في قوله: «أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت» (النحل/ الآية36) هو لأنّ الطاغوت يطغى ويجرّدك من عزّتك.
  • وإليكم المثال الآتي: يستقطب الاستكبار العالمي والصهاينة في العالم الكثير من علماء العالم ونُخَبه ويُغدِقون عليهم الأموال أيضًا، لكن بنظرة عامّة نعرف أنّهم ذلّوهم وجعلوهم عبيدًا متعلّمين ومُرَفّهين للنظام السلطوي؛ فلا يحقّ لهم أزيد من مساحة ضيّقة من الاعتراض، أو أخذ القرارات، أو التأثير على ساسة العالم الكبار. بالطبع قد يولونهم الحدّ الأدنى من الاحترام، بالضبط كالكبش الذي يربَّى ليجهَّز للذبح، فيقدَّم له في هذه المدّة علف جيّد، إذ لا بدّ أن يَسمن ويكنز لحمًا غزيرًا.
  • وهنا تحديدًا يكتسب المرء رؤية أدقّ إلى العزّة. فما هي مقادير العزّة وموازينها يا ترى؟ تعسًا للعالِم الذي يضع علمه في خدمة الصهاينة فيَجنون هم الأموال والإيرادات الرئيسة التي يعطيها هذا العلم، فيتسلّطون بواسطته على البشر وينهبون خيراتهم، ولا يستطيع هذا العالم التعيس الاعتراض والقول: ألا إنّكم تستعملون علمي أنا، فلماذا تقتلون البشر؟! لماذا تنهبون خيرات الشعوب؟! إنه لا يستطيع، بل لا يحقّ له قول هذا!
  • يجب أن ننظر إلى موضوع العزّة بعمق، وأن نحدّد موازين العزّة لكلّ إنسان. فالله عزّ وجلّ يناقش الناس في القرآن الكريم حول موضوع العزّة؛ كقوله تعالى: «أَيَبتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّة» (النساء/ الآية39)؛ أيطلبون العزّة من الكافرين؟! إنهم يبادلونك بابتسامة، ويولونك بعض الاهتمام، لكنّ العزّة التي تظنّ أنّها عندهم ليست في الحقيقة عزّة!

محال أن يكون الإمام الحسين(ع) قد نهض لقيمة ثانوية ولم ينهض لأكثر القيم البشريّة جوهريّةً

  • وحَسبُ موضوعِ العزّة أهمّيّةً أنّ حادثة كربلاء وملحمة الطف إنّما قامت صيانةً للعزّة وبشعار «هيهات منّا الذلّة». فمن المحال أن لا يكون الإمام الحسين(ع) قد نهض من أجل أكثر القيم البشريّة أصالةً وجوهريّة، ويكون قد نهض لأجل قيمة ثانويّة! إنّ هذا ما لا نستطيع هضمه. فالإمام الحسين(ع) - في نظرنا - متفرّد في تاريخ البشريّة، ولقد بكاه الأنبياء جميعًا، وإنّ لهذا البكاء حكمة؛ فما معنى أن يبكيه الأنبياء جميعًا؟ معناه أنّه(ع) مَعلَمُ التاريخ البشريّ إلى يومِ القيامة، بل حتّى في يوم القيامة فإنّ تفرُّد أبي عبد الله الحسين(ع) في المنزلة، وتفرُّد نهضته من بين سائر النهضات سيبقى على حاله.
  • مشهد المحشر [يوم القيامة] هو الآخر سيتشكّل حول الإمام الحسين(ع) والثأر من أعدائه وشفاعة أوليائه. فلا يمكن أن يكون «هيهات منّا الذلّة» شعارًا لعاشوراء من دون أن يكون الشعار الأساسي لحياة البشر، هذا غير ممكن، بل محال أصلًا. وإنْ قلتَ لي: "أليست العبوديّة لله تعالى هي القضيّة الأساسيّة في حياة الإنسان؟ فلماذا إذن تدّعي أنّ قضيّة الإنسان الأساسيّة هي نفي العبوديّة لغير الله؟" إنْ قلتَ لي هذا لأجبتُك: "التفت أوّلًا إلى شعار: «لا إله إلا الله»، إنه لا يخبرنا بأنّ الله موجود أو أنّه واحد؛ بالطبع هو ينطوي على التوحيد أيضًا، لكن ليس بالمعنى المتداوَل في علم الكلام.

أهم قضية في حياة الإنسان هي "عدم الذلّة لغير الله"

  • إنّك إن نظرتَ إلى شعار «لا إله إلا الله» رأيته أوّلًا يُلغي العبوديّة لغير الله تعالى، وهذا الإلغاء تفوح منه رائحة كربلاء، وهو إلغاء الذلّة؛ فإنّ العبوديّة لغير الله تُورِث الإنسانَ هذه الذلّة.
  • العزّة هي أهمّ شعارات الطَفّ، ومن المستحيل أن لا تكون حادثة عاشوراء قد تناولت أهمّ قضيّة في حياة البشر، وإنّ أهمّ قضيّة في حياة البشر هي عدم الذلّة لغير الله. وحين يحصل هذا ينطلق الإنسان، ويتحرّر، وسيتّجه تلقائيًّا صوب العبوديّة لله جلّ وعلا. وإنّكم سترون هذا في المجتمع المهدويّ ودولة صاحب الزمان(عج)؛ فكم سيكون من السهل آنذاك تربية الناس تربيةً دينيّة، وكم سيكون من السهل أن تتواءم شعوب العالم مع بعضها البعض لتقوم دولة خالدة إلى يوم القيامة، دولة تحكم الناس بكلّ سهولة. لماذا يحصل هذا؟ يحصل لأنّ إلغاء العبوديّة لغير الله سيكون قد تحقّق بشكل كامل، وأنّ ذلّة الناس وهوانهم أمام الطواغيت سيكون قد ذهب من غير رجعة.

حين نلمس موازين العزّة سنعرف لأيِّ ألوان من الذُلّ والهوان رضخنا إلى الآن؟!

  • أتتصوّر أنّ الإمام صاحب الزمان، أرواحنا له الفداء، إذا ظهر سيخطب في الناس كلّ حين؟ وهل فعلَ رسول الله(ص) هذا في زمانه يا ترى؟! كلا، فالإمام المهدي، أرواحنا له الفداء، لن يلقي الكثير من دروس العرفان والأخلاق، بل سيحوّل «هيهات منّا الذلّة» للبشر من حالة الشعار إلى حقيقة عامّة قائمة؛ أي سيحقّق "إلغاء الذُلّ أمام الطواغيت" على أرض الواقع. وماذا سيحصل عندها؟ سيحصل ازدهار. اِعمَل أنت فقط على إيجاد هذه العزّة للإنسان، وعلى إلغاء ذُلّه أمام الطواغيت وما سوى الله، وأزل إمكانيّة إذلاله، وسترى كيف سيزدهر الناس بشكل تلقائيّ.
  • على أنّ المشكلة لا تكمن في الازدهار نفسه، بل في "إزاحة الموانع"، والموانع إنّما تزاح بالعزّة. آلاف الذرائع تُختلق لإذلالنا، هاهنا تكمن المأساة! ونحن بدورنا نأتي بآلاف الحُجَج لنتنازل عن عزّتنا. فحين نلمس موازين العزّة سنعرف لأيّ ألوان من الذُلّ والهوان رضخنا إلى الآن؟!
  • العزّة هي القضيّة الرئيسة في حياة الإنسان، وإنّه لهذا المفهوم استُشهد الإمام أبو عبد الله الحسين(ع). لقد شَيَّد أبو عبد الله الحسين(ع) ملحمة كربلاء على مفهوم بارز رفيع، ولأجل هذا بقيتْ هذه الملحمة محورًا على مرّ التاريخ، من أوّله إلى آخره، ولا ينبغي أن نمرّ عليها مرور الكرام.

يكون الإنسان عزيزًا إذا كان منيعًا

  • بالمعنى اللغويّ أيضًا تعطي العزّةُ معنى الاستقلاليّة. فهل العزيز هو الكريم والمحترم يا ترى؟ كلا، المعنى الدقيق للعزيز هو المنيع أو الممتنع الذي لا يغلبه شيء. ولقد ذكرتُ ليلة الأمس أنّ أهمّ مَكمَن لعزّة الإنسان استقلاليّتُه. فكيف يكتسب المرء العزّة؟ يكتسبها حين يكون منيعًا عصيًّا على النفوذ إليه. وهل تمتلك أنت في داخلك ما يؤهّلك لإدارة ذاتك إذا كنتَ مقاومًا لنفوذ الأشياء إليك؟ أجل، فلو عثرتَ على قلعة منيعة، كتلك القلاع القديمة مثلًا، لوجدت داخلها بئرًا، بل وبعض إمكانيّات الزراعة أيضًا؛ أي إنّها تؤَمِّن في داخلها احتياجاتها إلى حد كبير لتكون قادرة على الصمود أمام العدو.
  • الشخص العزيز، هو الشخص المستقل! ولهذا فإنّ رُكن العزّة الركين هو الاستقلاليّة. ولكي أُعطي العزّة حقَّها في التوضيح سأبتعد عنها، ولأنّي أخشى أن نبالغ في الخوض في عموميّات هذا المفهوم، أرى أن نتحوّل إلى مفهوم الاستقلاليّة، فهو يكشف لنا الجزء المفتاحيّ والجوهريّ من العزّة.
  • لاحظوا إلى أيّ مدًى إسلامُنا العزيز الأصيل مُتَّهَمًا! وإنّ إحدى الأمور التي سأنجزها في هذه المحاضرات حتى آخرِها هي محاولة إنقاذ هذا الدين من غربته والردّ على التُهَم المُلصَقة به والعالقة إلى الآن في أذهان الكثيرين، بل إن الكثير من المتديّنين أيضًا قبلوا الدين بهذه التهم! أي إنّ منطقهم هو: "أجل، إنّ هذه التُهَم واردة، لكن لا بأس!" في حين أنّ هذه التُهَم ليست ورادة، فلِمَ تُقِرّون هكذا بمثل هذه الانطباعات الخاطئة عن الدين؟! ومن ناحية أخرى، حين يحاول المرء إزالة انطباع خاطئ متفشٍّ في المجتمع ترتفع أصوات الشجب والاستنكار من الكثيرين. ولذا يتوجّب على المرء توخّي الحذر الشديد لدى الخوض في هذا الكلام!

مفهوم "الحرّيّة" الذي يحظى بكلّ هذه العالميّة يمثّل جزءًا من الاستقلاليّة والعزّة، لا كُلّهما

  • العزّة هي أهمّ قيمة وجوديّة للإنسان استُشهد سيّد الشهداء(ع) من أجلها، ولولا أنّها الأهمّ لَما حظيت هذه الملحمة بكلّ هذه المحوريّة في تاريخ الإنسان وحياته. فالعزّة أساسًا هي الاستقلاليّة. والآن لاحظوا موازين العزّة! مَن هو العزيز؟ هو مَن له حقّ التفكير بمفرده، واتّخاذ القرار وحدَه، والتصرّف بحرّيّة؛ ولا أدري كم بالمئة من العزّة تمثّل الحرّيّة، هذه المشهورة في العالم كلّ هذه الشهرة؟ وكم بالمئة من الاستقلاليّة تشكّل؟ إنّها جزء منهما، وليس كلّهما.
  • اِمنَحْ شخصًا الحرّيّة ولا تعطه القدرة، وانظر ما الذي يستطيع صنعه؟ في فلم "المبارز" [غلاديايتر] مثلًا يحاول المَلِك الظالم أن يظهر أمام شعبه بمظهر البطل، و"أنّي سأبارز غلاديايتر في نزال حُرّ وأهزمه" لكنه، قبل النزال، يغرز خنجرًا في قلبه ثمّ يعلن: "أطلقوا سراحه ودعوه يبارزني بحرّيّة" في حين أنّ المبارز كان يلفظ أنفاسه الأخيرة جرّاء الجرح ولم يكن بحاجة أصلًا إلى ضربة إضافيّة. ثمّ جاؤوا به وأعلنوا: "إنّك حُرّ...". أجل، أعطيتَه الحرّيّة، لكن لماذا طعنتَه بالخنجر؟ لم تعد لهذه الحرّيّة من قيمة! لقد سلبتَه قوّته، حطّمتَ قدرته...
  • الحرّيّة التي يمنحها الغرب والليبراليّون هي هكذا؛ إنّهم يطعنون الشخص بالسكّين ويُضْعِفونه بألف حيلة، ويسلبونه قدرته، ثمّ يقولون له: "أنت حُرّ!" يفعلون ذلك في مجال السياسة عبر الصحافة السياسيّة السوداء، التي توجد نماذج من صحفها وصحافيّيها في بلدنا أيضًا، وتستطيعون مشاهدتها، ومطالعتها، وأخذ عيّنات منها. هم أنفسهم الذين أُسَمّيهم "البِيبيسِيّون الخبثاء"، أو وكالة الـ"BBC" أو "صوت أمريكا" أنفسهما، الذين يقومون – في الواقع – مقام ذلك الخنجر، فيُغوون الناس الذين يتصرّفون، كما في الظاهر، بحرّيتهم. فكيف للناس اليوم أن ينهضوا في وجه الظلم والجور؟ فإنّ خناجر الإعلام الماكر مغروزة حتى المقابض في صدورهم ولم تدع لهم من الحَوْل والقوّة شيئًا لينهضوا.
  • على أن شعوب العالم، شأنها شأن بطل فلم "المبارز"؛ الذي قد بذل قصارى جهده على الرغم من عجزه ليطرح الملك الجائر أرضًا، أخذتْ تنهض – شيئًا فشيئًا – بوجه النظام السلطوي وضدّ هذا النظام الديمقراطي الليبرالي المنحط المشؤوم؛ مثل التظاهرات التي أطلقها الفرنسيّون ضدّ نظامهم قبل عام ونيّف.
  • يقول سماحة الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) في بيان "الخطوة الثانية للثورة": "ما كلّ شعب ينهض بوجه الظلم..." وما أعمقه من كلام! ثمّ قال: "فإنْ نهضَ لا يستقيم على نهضته ولا يصون ثورته". غير أنّ هاتين الميزتين موجودتان في شعبنا.

عِزّ الإنسان باستقلاليّته؛ استقلاليّته في الفهم وقراءة الأحداث/ ويريد الله أن يصون استقلاليّتنا في قضيّة العبوديّة

  • بماذا يكون الإنسان عزيزًا؟ باستقلاليّته. الاستقلاليّة في ماذا؟ الاستقلاليّة في الفهم، الاستقلاليّة في قراءة الأحداث. ولكي يستقلّ المرء في فهمه وقراءته لا ينبغي للرسول(ص) أن يعطي الكثير من الإيضاحات، أو يُكثر من التبليغ، أو يبالغ في توضيح الحقّ، أو يُسرف في الإتيان بالمعاجز.
  • إنّ لدينا شعورًا بالتبعيّة لله تعالى، وإنّ من واجبنا ترسيخ هذه التبعيّة أيضًا، لكن ثمّة في صلب هذه التبعية استقلاليّة. فلو أراد الله أن يجعلك تبعًا ومطيعًا ومنقادًا له بالمعنى الشائع للكلمة (أي من دون استقلاليّة) لا يصعب عليه ذلك؛ كأن يجعل كلّ شاب يبلغُ سنّ الرشد يشاهد منامًا يرى فيه المحشر والقيامة ويقال له: "هذه الجنّة، وهذه النار! والآن، أسوف تصلّي؟" فيقول: "أجل، فقط قل لي كم ركعة؟" وسيشرع من غده يصلّي صلاة الليل أيضًا، وينتهي الأمر! ليس هذا بعزيز على الله! إذن لماذا لم يفعل هذا؟ لأنه يريد المحافظة على استقلاليّتك في العبادة.
  • ما هو الفهم الخاطئ المتداول عند العامّة؟ إنّه الفهم الخاطئ لكلمة الطاعة، الفهم الخاطئ لكلمة العبوديّة، الفهم الخاطئ لكلمة التبعيّة. أجل، إنّنا حقًّا تبَعٌ لله تعالى، إنّنا حقًّا عبيد له، إنّ علينا حقًّا أن نعبده، إنّ علينا حقًّا أن نطيعه، لكن أتعلمون ما معنى هذا؟ كل هذا مع حفظ استقلاليّة الإنسان، الاستقلاليّة التي تأتي في خِضَمّ الامتحانات الإلهيّة، حيث يَذَرُك الله وحدك لتتّخذ قرارك بنفسك، حيث يريد الله أن يرى ماذا لديك أنت في جعبتك؟

الإخلاص هو أن لا تتأثّر بأيّما شيء وأن تكون مستقلًّا/ لا يعّذبنا الله من فوره لأنّه يريد أن يحفظ استقلاليّتنا

  • ليس سلوكك الحسَن هو المهمّ عند الله، المهمّ عنده تعالى هو الباعث لهذا السلوك! ولهذا تراه لا يقبَل إلّا من المخلص؛ ففي الخبر: «إِنَّ اللهَ تَعالى لا يَقبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلّا ما كانَ لَهُ خالصًا» (كنز العمال/ 5261)، «عَلَيكَ بِالإخلاصِ‏ فَإِنَّهُ سَبَبُ قَبولِ الأَعمال» (غرر الحكم/ ص444)، «مَن أَشرَكَ مَعي غَيري في عَمَلٍ عَمِلَهُ لَم أَقبَلهُ إِلَّا ما كانَ لي خالِصًا» (الكافي/ ج2/ ص295). فالإخلاص هو أن لا تقع تحت تأثير أيّ شيء وأن تكون مستقلًّا. لكن ماذا لو كنتُ متأثّرًا بالله تعالى؟
  • أتعرِف كيف يؤثّر الله سبحانه عليك؟ أتعلم بأيّ فاصل كبير يفعل ذلك؟ لماذا لا يعذّبك الله مباشرةً؟ ولماذا لا يشجّعك مباشرةً؟ لأنّه يريد أن يحافظ على استقلاليّتك.
  • سألني أحدهم ذات مرّة: "في أي موضع من القرآن الكريم ذُكر مفهوم الحرّيّة؟" قلتُ: "ثلث القرآن الكريم على أقلّ تقدير يتحدّث عن الاستقلاليّة والحرّيّة!" قال: "أين؟" قلت: "علامَ كلّ كلامه هذا عن الجنّة والنار؟ يقول الله لك: سأعاقبك فيما بعد، ولربّما عفوتُ عنك! سأنعم عليك فيما بعد... فلماذا يتأخّر أجر الله وعقابه كلّ هذا التأخير؟ لماذا لا ينزل عذابه الآن؟
  • عادة ما يقال في العلوم التربويّة: "إذا أخطأ الفرد عاقبه ليتنبّه لخطئه...". هذه العلوم لا ترى لاستقلاليّة الإنسان قيمة، لكنّ الله يرى لها هذه القيمة، بل إنه تعالى لا يرينا شيئًا من نار جهنّم، بل ولا يسمح لمن دخلها أن يرجع بهذه البساطة لينبئنا ما القصة هناك!
  • في بعض البرامج يأتي بعض من خاضوا تجربة مقتَضَبة من الموت ليتحدّث فيقول: "هذا الذي أخبرتكم به يمثّل واحدًا من المليون! لا تظنّوا أنّ هذه كلّ الحكاية...". الله أخفاه. "لكن إلهي، لماذا تخفيه؟ قل بصراحة، أظهره لنا...". يجيب الله: "لو أظهرتُه لك لانثَلَمت استقلاليّتك، فإن توجّهتَ إليَّ بعد ذلك فبسبب تأثير ما رأيتَ، وأنا لا أريد إجبارك، فلو كنتُ أريد إجبارك لما صَعُب عليّ ذلك؛ كنتُ أظهرتُ لك كلّ شيء في يقظتك هذه، لكنني أحفظ عزّتك واستقلاليّتك".

عبادة الله هي في ذاتها "استقلاليّة للإنسان"

  • القرآن الكريم كلّه يفصح عن استقلاليّة ابن آدم، لا بل يقول عزّ وجلّ لنبيّه الكريم(ص) أيضًا: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر» (الغاشية/ الآية22). ويقول قبل هذا: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر» (الغاشية/ الآية21)؛ إنك مُذَكِّر لا غير، أنت غير مسيطر عليهم... إذن إن كنتَ سمعتَ شيئًا عن "العبوديّة لله" فهي في ذاتها ضرب من الاستقلاليّة.
  • يحبّ معظمُنا أن يكون تبعًا لله تعالى إلى درجة أن يقول له: "إلهي، هيا شَدِّد علَيّ لكي لا أذنب من الآن فصاعدًا، أرجوك! لا أريد أن تمنحني كلّ هذه الاستقلاليّة! لقد جلبتُ لنفسي التعاسة؛ بقراراتي التعيسة، بضعفي، بمخاوفي، بـ... يا رب، اِجبُر لي كل هذه الكسور...". حسنٌ، لو أنّ الله جلّ وعلا سَمِعَ لقولك لتقرّبتَ منه أيّما تقرُّب، ولاجتاحتك حالٌ طيّبة؛ كأن تحُجَّ حجًّا روحانيًّا، أو تنالَ زيارةً راقيةً لكربلاء، أو تخوضَ تجربةً عزائيّة مُحَرَّميّة رفيعة، وما إلى ذلك... ثم أتعلم ما سيحصل بعد ذلك؟ سيبلوك ببلاء من الوزن الثقيل، أو يختبرك اختبارًا صعبًا، أو يضعك أمام ذنب عظيم، وبطبيعة الحال سيذهب كلّ هذا الذي ادّخرتَه أدراج الرياح بمثل شربة الماء!
  • كان لأحد أولياء الله ولد وكان يحبّه حبًّا عظيمًا. ذات مرّة حينما رجع من حجّ بيت الله الحرام أخبروه أنّ ولده قد مات (إذ لم يخبروه وهو في الحج). يقول الرجل: "فهمتُ ما القصّة، فقلتُ: إلهي، هكذا؟ أتمتحنني لترى كيف كان أثَرُ الحجّ فيَّ؟ وما إذا كان إيماني قد قوي بالحجّ أم لا؟" يقول: "تلوّعتُ.. احترقتُ بنار الألم، لكن لم أنبُسْ ببنتِ شَفَة، رَضَّيتُ قلبي بما رضيه الله لي، لم أتأوّه.. قلتُ: إلهي، أنا راضٍ بما ترضاه لي". ومنذ ذلك الحين جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، فكان العلماء يحضرون منبره، فيقول لهم أمورًا عن ظهر قلب، فيجدونها - بعد أن يخرجوا من عنده - مطابقةً لما جاء في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

استقلاليّة الإنسان متحقِّقة أيضًا في صُلب العبوديّة لله وطاعته والتبعيّة له

  • إنّ الله عزّ وجلّ لا يأخذك إلى منتهى الطريق، ولا الإمام الحسين(ع) يفعل ذلك، لا ولا صاحب الزمان(عج)، إنه يأخذك إلى بضع أقدام ثمّ يتركك، لأن عليك أن تقف أنت على قدميك، لأنّ الاستقلاليّة هي الأصل، وإلّا لم يكن ليخلقك إنسانًا أصلًا. تقوم من نومك بضع ليال لصلاة الليل، فيفعل الله في ليلة من الليالي ما يجعل التعب والإرهاق يتغلّب عليك فلا تستطيع الاستيقاظ لصلاة الليل، بل يقول لملائكته: "ملائكتي، لا توقظوه، بل دعوا صلاة الصبح تفوته أيضًا. فتتنبّه من جديد وتقول: إلهي، لماذا حصل هذا؟ لماذا تركتني؟! «فَيَتَهَجَّدُ لِيَ اللَّياليَ فَيُتعِبُ نَفسَهُ في عِبادَتي فَأَضرِبُهُ بِالنُّعاسِ اللَّيلَةَ وَاللَّيلَتَينِ، نَظَرًا مِنِّي لَهُ وَإِبقاءً عَلَيهِ، فَيَنامُ حَتّى يُصبِحَ فَيَقُومُ وَهُوَ ماقِتٌ لِنَفسِهِ زارِئٌ عَلَيهَا، وَلَو أُخَلّي بَينَهُ وَبَينَ ما يُريدُ مِن عِبادَتِي لَدَخَلَهُ الْعُجْبُ» (الكافي/ ج2/ ص61).
  • فهذه الاستقلاليّة موجودة في صلب العبوديّة لله، في صلب طاعته، في صلب التبعيّة له عزّ وجلّ. لاحظ نمط تعاطي الله تعالى معك، وطبيعة الامتحانات التي يُخضِعُك لها، وسترى أنّه باستمرار يريد أن يفعل ما يجعلك تقف أنت على قدميك.

الذي يبلغ سنّ الرُشد يعني أنّه استقلّ وأنّه يتحمّل مسؤوليّة كلّ ما يفعل

  • هل أقيم لك حفل لدى بلوغك سِنّ الرُشد؟ أتعلم ما معنى حفل التكليف؟ يعني أنّك، من الآن فصاعدًا، أصبحت مستقلًّا. كم يستعجل الله لاستقلاليّة عبده! لا أدري ماذا رأى تعالى في هذا الإنسان؟ لو طلبوا رأيَنا، نحن المشتغلين – كما يُفترَض – في سلك التربية والتعليم والمدارس لقلنا مثلًا: لو أُجِّل موعد التكليف عشر سنوات أخرى لكان أفضل. ذات مرّة استطلعتُ آراء عدد من المعلّمين المؤمنين المخلصين من أنّه: "ما هي السنّ الأفضل لبلوغ الأطفال؟" فكان معدّل السِنّ الذي اقترحوه لذلك حوالي عشر سنين أكثر من السنّ المعمول بها حاليًّا (مثلًا حوالي سنّ الحادية والعشرين أو الثالثة والعشرين) وحجّتهم أنّه: من السيّئ أن يلتفت الطفل إلى غريزته الجنسيّة وهو في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة!... لربّما يتصوّر البعض أنّ الأمر في هذه القضية قد خرج تمامًا من يد الله تعالى فصار على هذا النحو!
  • هذا في حين أنّ الله تعالى يقول لعبده: "ولدي، ابنتي، لقد أصبحت من الآن مستقلًّا! ولكي تكشف عن استقلاليّتك لا بدّ أن أضع أمامك ما يجذبك لأرى إن كنت ستنزلق أم لا؟" ولو كنّا نحن لاعترضنا قائلين: "إلهي، انتظر، عليك بالحَيْطة، إنّه ما زال طفلًا يعجز عن فهم الكثير من الأمور...". لكن الباري عزّ وجلّ سرعان ما يمنح عبده الاستقلاليّة. وحين يقول: "إنّك مكلَّف"، فهذا يعني في الحقيقة "أنّك مستقلّ، ومسؤول من الآن عن جميع تصرّفاتك".

يجب على كلّ من يريد السلوك نحو الله أن يكون مستقلًّا

  • ميزة السيّئين – بحسب ما جاء في القرآن الكريم - أنّهم لا يفقهون هذه الاستقلاليّة، فالله جلّ وعلا يصرّح في كتابه العزيز أنّ الصالحين هم أولئك الذين يعتمدون على أنفسهم إذ يقول: «مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ َ الَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا...» (الفتح/ الآية29)؛ فالذين مع رسول الله(ص) هم هكذا: «كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ»؛ كمزرعة أعطت محصولًا وافرًا جدًّا؛ تخيّل سنبلةَ قمح مليئة بالقمح أو غرسة أو شجرة تحمل ثمرًا كثيرًا، «فَاسْتَوى‏ عَلى‏ سُوقِهِ»؛ فإنّ النبتة التي تقف على ساقها هيَ لا تكون متطفّلة على غيرها، مع أنّها عند النبي(ص) وفي مَعِيّته! «يُعْجِبُ الزُّرَّاع‏» فهو يثير عَجَب المُزارِع نفسه. فقد يكون المحصول من الجودة والحُسن أحيانًا ما يجعل المُزارِع نفسه يقول فاغرًا فمه: "لكنّني لم أفعل شيئًا! سقيته بعض الماء، واعتنيت به قليلًا، لكن انظر كم قد نما وكم قد حمل من الثمر!".
  • ثمّ تخيّل – على النقيض من هذا – نبتة هي من الضعف ما يحتّم على المُزارع العناية بها غاية العناية فيُثَبِّت في الأرض إلى جوارها وتدًا أو يحيطها بحاجز كي لا تنكسر بفعل الرياح. أمّا في هذه الآية الكريمة فيقول عزّ وجلّ: "هؤلاء ليسوا هكذا، فالذين هم بصحبة نبي الإسلام(ص) «تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوانًا سيماهُمْ في‏ وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى‏ عَلى‏ سُوقِه‏»؛ يطلبون من الله فضله ورضوانه، ترى في جباههم آثار نور العبادة، وقد ذُكر مثالهم في التوراة والإنجيل، فهم كزرع يثير عجب المُزارع نفسه فيقول: أيُّ زرع هذا! ما أحسنَ وقوفَه على ساقه!
  • فإنّ الله تبارك وتعالى إذ يصف المؤمنين يرى أنّ إحدى محاسنهم هي أنّهم "يقفون على أرجلهم". يا أصدقائي، إنّ كلّ مَن يميل إلى المعاصي يكون – في واقع الحال – أسير هذا وذاك، وإنّ كلّ مَن يرغب في السلوك إلى الله يتحتّم عليه أن يكون إنسانًا مستقلًّا.

لا يريد الله أن يَصلُح أحدٌ متأثّرًا بالجَوّ العامّ من دون أن يكون مستقلًّا

  • والآن، ألا يمكن أن تقعَ في أَسْر شخصٍ صالح، أو أن يَعمَد شخص – مثلًا – إلى الاحتيال عليك فيجتذبك إلى المسجد؟ بلى يمكن، لكنّ الله تعالى "سيُنقذك" من قبضته! كأنْ يُوَرّطك بعمل مُحَرَّم صارخ فتَضِلّ عن سبيله.. كُن مطمئنّ البال! ألا يمكن أن يجتذب الأصدقاءُ الصالحون ولَدي إلى المسجد؟ بلى يمكن، لكنه سيهرب من الباب الآخر للمسجد! كأن يرتكب فجأةً خيانةً ما! ولقد شاهدنا من هذا الكثير في أيام الشباب.
  • كانت الصداقات المدرسيّة تستقطب جماعة إلى المسجد، وكانت الأجواء أجواء حرب، إلّا أنّ بعض هؤلاء لم يكونوا من هذا الصنف، بل كانوا ينجذبون تأثُّرًا بالجوّ العام، ثمّ كان الله تعالى يلتقطهم من بين الباقين وينبذبهم خارجًا بطريقة عجيبة، فكانوا يتحوّلون إلى مجرمين خبثاء! كانوا يُجتذَبون تأخذهم حماسة الجوّ العام، كحال بعض السياسيّين مِمّن ترَون؛ فمن الواضح جدًّا، إذا تصفّحتَ ماضيهم، أنّهم انخرطوا في السلك الثوريّ متأثِّرين بالأجواء النفسيّة المُهَيمِنة للثورة، هكذا أصبحوا ثوريّين، بل كانوا يضربون ويَنقَضّون بثورية أشد وحِدّة أعلى من الباقين، أما الآن فلا يَقبَلون الثورة قَيدَ أنمُلة.
  • إذن الصالحون مستقلّون، لكن كيف هم الطالحون؟ يقول ربّ العزّة في آية شريفة أخرى: «وَبَرَزُوا لِلهِ جَميعًا فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْء» (إبراهيم/ الآية21)؛ يقول المستضعفون يوم القيامة للمستكبرين: لقد كنّا تابعين مطيعين لكم أيّها الظَلَمة، فهل يمكنكم الآن أن تمنعوا العذاب عنّا؟...
  • ليتنا علَّمْنا الأطفال دروسًا في الاستقلاليّة بدلًا من درس الدين، وبيّنّاه للناس – الذين يعرفون فطريًّا لذّة هذه الاستقلاليّة – من جهة علم النفس والأنثروبولوجيا باللجوء إلى أحاسيسهم هم، ومن ثَمّ نقول لهم: "حسَنٌ، الذي بمقدوره مساعدتك على صون هذه الاستقلاليّة هو الله ومنهاجُه، أيّ الدين نفسه".
  • رؤيتك الكثيرين وهم يصبحون متديّنين مع الإمام الحسين(ع) في شهر محرم إنّما يرجع إلى أنّه(ع) يأخذنا نحو أصل الدين. فحين تلطم الصدر وتهتف: "يا حسين، لقد استشهدتَ من أجل عزّتك، ولكي لا تُذَلّ، وإنّي أقَدّر منك هذا الموقف" فهذه دعوة إلى العزّة، إلى الاستقلاليّة، إلى أن تعثر على استقلاليّتك، فلا تعود - من ثَمّ - إلى المعاصي، ثمّة صِلَة قويّة بين الأمرين، فإنّك هنا لا تتأثّر بهذا أو ذاك.
  • يصنع الإمام الحسين(ع) ما يجعلك تقف وسط موكب اللطم وتهتف بهتافات دينيّة، يصنع ما يجعلك أنت نفسك، الذي كنتَ لا تصلّي في المدرسة أو في محلّ العمل خشية أن يسخروا منك، ترتدي القميص الأسود وتنادي "يا حسين"، وليهزأ مَن يريد أن يهزأ، ليخسأ! ماذا حصل فحظيتَ بكلّ هذه العزّة والاستقلاليّة بمجرّد دنُوّك من الإمام الحسين(ع)؟ إنّها الروح الحسينيّة التي دَبَّت فيك، وهذا بالذات هو أساس الدين، فما هو الدين يا ترى؟ هذا هو أساسه.
  • وفي آية قرآنيّة أخرى يتحدّث الله عزّ وجلّ عن عدم استقلاليّة السيّئين فيقول: «وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبيلا» (الأحزاب/ الآية67)؛ مثلًا أطعنا آباءنا... وفي موضع آخر ينقل عن الطالحين قولهم: "هذه هي ثقافتنا، إنّنا متأثّرون بثقافتنا، ثقافة آبائنا وأجدادنا: «قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» (لقمان/ الآية21)؛ فكأنّ الله يخاطبهم بالقول: "أيّ تفاهة هذه؟! أفتريدون سلوك الطريق نفسه إذا كانوا هم قد سلكوا الطريق الخطأ؟!".

حتّى من أجل هدايتنا الله لا يخاطبنا أبدًا بطريقة تسلُبُنا استقلاليّتنا

  • حتّى من أجل هدايتنا الله لا يخاطبنا أبدًا بطريقة تسلبنا استقلاليّتنا. ولهذا السبب تحديدًا قد لا يحبّ معظمُكم القرآنَ الكريم، بل إنّ القرآن لا يجعل أحدًا يحبّه بهذه البساطة! تقرأ منه قليلًا فيثيرُ مَلَلك فيقول: "اغرُبْ عن وجهي! أفهل أنا رواية وأريد أن أُلهيك وحسب؟! أو أريد أن أخدعك فأصوغ عباراتي بحيث تقرأها إلى النهاية ولا تتركها!
  • إنّك إنْ لم تُجتذَب إلى القرآن فهذه خطّة الله تعالى، فلا تظُنّ أنّ الله لم يقدر على اجتذابك أكثر من هذا، أو تتخيّل أنّك إنسان سيّئ، إنّها أساسًا خطّة الله! وما معنى الاجتذاب؟ عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: «يا مَعشَرَ الأَحداثِ اتَّقوا اللهَ وَلا تَأتُوا الرُّؤَساءَ وَغَيرَهُم‏ حَتَّى يَصيروا أَذنابًا، لا تَتَّخِذوا الرِّجالَ وَلائِجَ مِن دونِ الله» (وسائل الشيعة/ ج27/ ص133)؛ إنّه(ع) يطالب الشباب أن: لا تقصدوا الرؤساء أو هذا وذاك من الناس، دعوهم وشأنهم. لماذا تقصدون كلّ مَنْ هبَّ ودَبّ؟ استقلّوا بأنفسكم، قِفوا أنتم على أرجلكم. لاحظوا كم يؤكّد الإمام الصادق(ع) على ضرورة أن يكون الناس، ولا سيّما الشباب، طالبي استقلاليّة.
  • ثم يضيف(ع) في ما روي عنه: «لا تَتَّخِذوا الرِّجالَ وَلائِجَ»؛ أي لا تقعوا تحت نفوذ أحد ما. والوليجة مذكورة في القرآن الكريم أيضًا في قوله تعالى: «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنينَ وَليجَةً» (التوبة/ الآية16)؛ وهي تقال لصاحب النفوذ والسطوة على غيره. فإنّ الله ينزعج من أن يسيطر عليك أحد، فيخاطبك بأنّه: لماذا يسيطر عليك فلان؟! لماذا توافقه في كلّ ما يقول؟! كُن أنت!
  • يُروَى أنّ الإمام موسى الكاظم(ع) قال لأحد أصحابه: «لا تَكونَنَّ إِمَّعَةً. قُلتُ: وَما الإِمَّعَةُ؟ قالَ: تَقُولُ: أَنا مَعَ النّاسِ وَأَنا كَواحِدٍ مِنَ النّاس» (الاختصاص/ ص343)؛ أي: كيفما كان الناس أكون! كلا، لا تكن كواحد من الناس.. لماذا تكون واحدًا من الناس؟ كن مختلفًا. ما معنى هذا؟ هذا معناه الاستقلاليّة.
  • ومن الواضح أنّه لا بدّ من الاستقلاليّة عن غير الله تعالى، ونحن جميعًا نعرف هذا، لكنّ القضيّة هي أنّه: كيف يحترم الله تعالى استقلاليّتك في صُلب عمليّة العبوديّة؟ ما هي خطّة الله عزّ وجلّ لتتمكّن أنت من حفظ عزّتك واستقلاليّتك؟ الحال المعنويّة الطيّبة هي أن لا تكون ذليلًا لأحد أو لشيء قطّ، وأن لا تتأثّر بأحد. هي أن تستمتع أنت باستقلاليّتك، وأن يُثني عليك الله جلّ شأنه لهذه الاستقلاليّة.

كيف صانَ الإمام الحسين(ع) استقلاليّة أصحابه؟ بأن طلب إليهم الرحيل حتى يكون الدافعُ لبقاء مَن بقي هو قراره الشخصيّ

  • لاحظوا كيف صانَ الإمام الحسين(ع) استقلاليّة أصحابه؟ صانَه بأنْ طلب إليهم الرحيل، كي يفهموا هم بأنّه لا ينبغي لهم الرحيل. هكذا حفظ(ع) استقلاليّتهم. وستبقى ليلة عاشوراء إلى يوم القيامة المعيار لتعيين أشدّ حقائق الدين أصالةً! لقد قال لهم الإمام(ع): "اذهبوا". لكن كان من الممكن أن يقرّروا الذهاب فعلًا! أجل، لقد طلب الرحيل حتى من العباس(س)!
  • لقد قال الإمام(ع): "اذهب"، لكي يكون دافعك، إذا قرّرتَ البقاء، هو قرارَك الشخصيّ أنت. هذا هو ديننا. إذن فما بال الأمور التي يأمر بها أمرًا؟ إنّه تعالى يفرض الصلاة فرضًا؛ صباحًا، ظهرًا، مساءً، ...إلخ. الله لا يريد أن يستعبدك، ليست هذه سوى الطرق التي تبلغ بها استقلاليّتك، بحيث إذا سكَتَ، فَهِمتَ ماذا يجب عليك صنعه، إذا قال: "ارحل"، علمتَ أنّه لا ينبغي الرحيل. إنّها السبل للوصول إلى تلك الاستقلاليّة، وإلّا فلو شاء أن ُيجبرك على ترديد الذكر كالرقيق [لم يصعب عليه ذلك]، فهو نفسه يقول في كتابه العزيز: «يُسَبِّحُ للهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرض» (الجمعة/ الآية1)؛ الكُلّ يسبّح لي، أنا لستُ بحاجة إلى مُسَبِّح. أتريد أن أَجبُلك أنت الآخر، شأنَ سائر الطيور والأنعام، على التسبيح لي؟ هذا ليس بعزيزٍ علَيَّ أبدًا. فلا يكون لتسبيحك عندي قيمة إلّا حين أزعجك لكي لا تتوجّه إليَّ لتسبيحي، فتتوجّه إليَّ وتسبّحني على الرغم من ذلك.
  • حكَى أحد أهل العلم عن أيّام شباب الحاج قاسم سليماني فقال: كنا آنذاك طلّاب علوم دينيّة، وكنّا نذهب إلى فِرقته وكان هو أيضًا يترك غرفة قيادته ويخالطنا نحن طلبة العلوم الدينيّة، بل كان ينام ليلًا في خندقنا أيًضا، وكان يعود في غاية الإعياء إلى درجة أن نقول: حتّى إن لم يستيقظ غدًا لصلاة الصبح لا نوقظه ونتركه ينام، لكنّنا عندما كنا نقوم لصلاة الليل نراه قد سبقنا بالقيام إليها، ولم نستطع ولا مرّة واحدة الاستيقاظ قبله لصلاة الليل. فالله يُتعبُك ليرى أتأتيه أيضًا أم لا؟ يرتّب لك المسوّغات ليرى إن كنتَ ستأتيه أيضًا أم لا؟ الله لا يرحم في مثل هذه الأمور! خذوها منّي!

النظرة اللافتة لفتًى جديد العهد بالإسلام إلى حدث أليم وقع له بعد إسلامه

  • شابّ روسيّ، نقلتُ قصّتَه سابقًا، لدى سماعه اسم الإمام "الحسين"(ع) في لطميّة في أخبار يورونيوز أَحَبَّ الإمام الحسين(ع)، فبحثَ فاكتشف أنّه مأتم يُقام على رجلٍ اسمه الحسين. في النهاية سافر أحد الإخوة إلى روسيا وعثر عليه، كان شديد التأثّر بالحسين(ع)، يسمع اللطميّات باستمرار. يقول: "حين كنتُ أسمع اللطميّة كان كياني يمتلئ حرارةً في برد سيبيريا القارس"، وما كان يعلم شيئًا عن الإسلام والإمام الحسين(ع).
  • في النهاية دعاه الإخوة فجاء إلى إيران وأخذوه إلى مرقد الإمام الرضا(ع). شاهدوا بأعينهم كيف كان في غَمرة الحبّ، وقِمّة الحال، كان يقترب تدريجيًّا. وفي رحلته الثانية، ولعلّها الأولى قال: "أريد اعتناق الإسلام، لأنّه دين الحسين". فاعتنق الإسلام، ونطق بالشهادتين عند ضريح الإمام الرضا(ع). لكن بمجرّد خروجنا عند الباب رَنّ هاتفه الجوّال، وفجأةً رأينا لونه تغيَّر. كان متعلّقًا بأُمّه بشدّة. قال: "أخبرَتْني أمّي الآن: صدرَتْ نتيجة تحاليلي.. عندي سرطان!".
  • يقول صديقنا: قلنا: "إلهي، الآن؟! لتوّه اعتنق الإسلام! لا بدّ أنه سيقول: "دينكم هذا لا سَعْدَ فيه لي! فقدتُ أمّي! الآن أسلَمتُ، أهكذا جزائي؟!". يقول: خيَّمَ علينا صمتٌ مُميت. تأمّلَ الشاب الروسي قليلًا.. كان غائصًا في أفكاره، حزينًا على أمّه. وفجأةً قال: "إنّ الله يختبرني.. رآني تقرّبتُ منه فبَلاني أنا الآخر، كما بَلا الحسين(ع)".
  • لا أريد أن أخيفكم بهذا الكلام، لكنّ رجلًا أتى الإمام الصادق(ع) فقال له: «وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكُم أَهلَ البَيتِ» حبًّا جمًّا، فأجابه الإمام(ع) أن: استعدَّ للبلاء! هاهنا كربلاء!. «قالَ(ع): فَاتَّخِذْ لِلبَلاءِ جِلبابًا، فَوَاللهِ إِنَّهُ لَأَسرَعُ إِلَينا وَإِلى شيعَتِنا مِنَ السَّيلِ في الوادي» (أمالي الطوسي/ ص154). لا تخافوا، فمن يخاف فليكن مرتاح البال، فإنّه لن يُبلَى! فإنّك لربّما احتجتَ إلى التفتيش عن البلاء في كل مكان ثلاثين أو أربعين سنة علّك تصاب ببضع شضايا، بل قد يكون لا بدّ لك من الضجيج لذلك.
  • أيّها الحسينيّون، كونوا أهل بلاء. ليطمَئِنّ بالُكم، فإنّكم لن تُبلَوا بهذه البساطة لكن، كُن مستقلًّا، كن حُرًّا، دَع الله يقول: حتى لو بَلَوتُ عبدي هذا لما سقط.

تعليق