الطريق الوحيد معالم الأسرة الصالحة رحلة الأربعين تعرف علینا بقلم استاذ البريد الكتروني فیسبوک تويتر انستقرام تلغرام

جديدنا

۹۳/۱۲/۰۲ چاپ
 

شرح خطبة المتقين (الجلسة الثالثة) 

هذا الذي بين يديك أيها القارئ العزيز هو الجلسة الثالثة من سلسلة أبحاث سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي رضا بناهيان في شرح خطبة المتقين لأمير المؤمنين(ع) حيث ألقاها في جمع من طلاب وأساتذة الجامعة في مسجد جامعة طهران. 

  • المكان: مسجد جامعة طهران
  • A4|A5 :pdf

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا وحبيبنا أبي القاسم المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.

نظرة قصيرة أخرى إلى روائع هذه الخطبة

  • بودّي أن أشير مرة أخرى إلى إحدى خصائص هذه الخطبة المباركة كمدخل للبحث، ثم ننتقل إلى تكملة الأبحاث. من الضروري لكل إنسان أن يستعرض هذه الخطبة لما تتصف به من الشمولية بمستوى كبير. فأحيانا نحن نملك الحافز اللازم للصلاح، وكذلك نحظى برأس مال جيّد لنيل الصلاح، ولكن لم نُحص الفضائل ومصاديق هذا الصلاح كي لا تفوتنا واحدة منها. فمرور الفضائل معا حال كونها مجموعة منتظمة واحدة أمر ضروري لكل من أراد أن يحصل على هذه الفضائل. كما أن لهذه الخطبة إنجازات وآثارا أخرى سأشير إليها لاحقا إن شاء الله.
  • في الواقع إن خطبة المتقين هي أمطار الفضائل، فكل من يقف تحت فيضها وتسقط قطرات فضائلها على فكره ومشاعره، تنبت أثمارا وأزهارا في وجوده.    

خصائص السؤال الجيّد

  • لقد قال لي الإخوة إنه كان أثر أبحاث الجلسة الماضية هو أن نمتنع عن طرح السؤال تماما، وعليه فاقتضت الضرورة على أن نؤكد الجانب الإيجابي في السؤال ونذكر مواطن الحسن والصلاح في إبداء السؤال. مع أنّي لم أرفض في الجلسة الماضية السؤال الحسن، بل إنما قلت: لابدّ أن نتجنب السؤال السيئ. إن ما أردت أن أؤكد عليه هو أن نقوم بتقييم أسئلتنا ونبحث عن دوافعه وحوافزه حتى أن ندرس أسئلتنا من الناحية النفسية. وهذا ما قام به القرآن بشكل دقيق جدا. من أهم الفوارق الموجودة بين القرآن والكتب العلمية هو أن الكتب العلمية تطرح السؤال وتجيب عنه، بيد أن القرآن لا يطرح السؤال والجواب وحسب، بل يطرح دوافع طرح السؤال أيضا وبكل جرأة. فبأمكاننا أن نخوض في معرفة النفس عبر دراسة أسئلتنا والبحث عن جذورها ودوافعها. إما بالإضافة إلى هذه النقاط التي ذكرناها في الجلسة الماضية، أردفنا نقطة أخرى وهي أنه لا داعي لطرح الكثير من الأسئلة الجيّدة، إذ إن «حسن السؤال نصف العلم».[1] إذن بإمكان الإنسان أن يحصل على النصف الباقي عبر الفكر والتأمل. ولهذا لا داعي لطرح السؤال الجيد والحسن أيضا في بعض الأحيان.
  • ولكن اسمحوا لي في هذه الجلسة أن أثني على الأسئلة الحسنة في بضع جمل قصيرة كي نتدارك بها ما تركته الأبحاث السابقة من أثر سلبيّ ضدّ السؤال. وهي أن السؤال الجيّد ينشأ من مصدرين: فإما هو ناشئ من وحي العلم، وإما ناشئ من وحي الهمّ. ولا يمكن الحصول على الجواب اللازم بدونهما. فتارة تكون الأسئلة من وحي العلم وحسب وليس فيها شيء من الهمّ والألم. فلا أثر لها وللجواب الذي يحصل عليه الإنسان عبر طرحها ولا سيما في المجالات المعنوية. وتارة تصدر من وحي الهمّ والألم المجرد عن العلم. فلأضرب مثالا:
  • اقترح عليّ بعض الإخوة قبل سنين أن أقيم هنا (في جامعة طهران) جلسات استشارية في المجالات المعنوية لطلاب قسم الطبيّة. فأقبل الطلاب يسجّلون لحجز الموعد لمدّة أسابيع، وفعلا بدأت الجلسات. أما اللطيف والملفت هو أن في تلك الأيام التي كنت بخدمة الطلاب كانت سبعين بالمئة من أسئلة الطلاب متشابهة ومن نمط واحد. كانت قد انطلقت أكثر أسئلتهم من همّ واحد ومشترك بلا أن يصاحبه علم مكمل لذاك الهمّ. إن همّهم الذي دفعهم لطرح أسئلتهم هو أنهم كانوا يريدون أن يعرفوا مدى شأنهم وقدرهم عند الله. فعلى سبيل المثال قال أحدهم: ارتكبت ذنبا وتبت بعد ذلك، فهل قد تقبلها الله أم لا؟ وقال الآخر: اتخذت برنامجا معنويا وتلكأت في تنفيذه فهل يقبلني ربي أم لا؟ وقال آخر: عزمت على القيام بالعمل الفلاني فهل سيجيبني الله أم لا؟ فكان همّهم هو أن يقضون على حالة الغموض في رؤية الله تجاههم. وأنا كنت أشير إلى نقطة في مقام الجواب وأشعر أن لو كانت هذه الحقيقة في علم الإخوة الطلاب لغضوا الطرف عن طرح أمثال هذه الأسئلة. وهي أن الله سبحانه قد أحاط علاقته مع عباده بهالة من الغموض. فلماذا تريدون أن تزيلوا هذا الغموض برمته؟ ولماذا تعتبرون هذا الغموض عائقا في مسار حركتهم المعنوية؟ ولماذا ترون هذا الغموض دليلا على عدم رضا الله عنكم؟
  • كما سألني صبيحة اليوم أحد الطلاب وقال: أحيانا أفقد الحال المعنوي، وهذا ما يحكي عن عدم رضا الله عني... . فقلت له: لماذا تعتقد بأنك يجب أن تشعر برضا الله عنك وتلمس ذلك؟ فقال لي: لا أريد أن أشعر به من الناحية المادية، بل أريد أن أشعر بذلك عبر حالي المعنوي وروحيتي وبهجتي في العبادة. فقلت له: إنك تأتي بكلمة «المعنویة» ولكنك تريد أن تشعر به من الناحية النفسية والوجدانيّة. بينما يجب أن نفرّق بين المعنى والمسائل المعنوية وبين الحالات والمشاعر النفسيّة. فلا داعي لأن يشعر الإنسان برضا الله. وهنا يأتي دور الإيمان بالغيب. وهنا يأتي دور العقل. ولكنه استغرب هذا الكلام!
  • وفي المقابل إذا كان السؤال منطلقا من العلم فحسب دون أن يصاحبه همّ وغمّ، عند ذلك يتلاعب السائل بالجواب، أو لن يوفّق للحصول على الجواب الصحيح، وإذا حصل على الجواب الصحيح ولم يتلاعب به ولم يجادل فيه، لن يطبّقه ولن يعمل بمقتضاه.
  • إذن لابدّ لأي سؤال حسن وجميل أن يكون نابعا من مصدري العلم والهمّ. فهذه أسئلة جيدة فإن طرحت في محلها، يكون ذلك علامة على أن الجواب في الطريق وسيصل للسائل إن شاء الله. كما لا يخفى أن التطور المعنوي لكل شخص مرهون بمستوى الأسئلة التي تتبلور عنده عن علم وهمّ في مسار حركته التكاملية.

شهود و إدراك الجمال و مستلزماته

  • لقد كان سؤال همام عن وصف المتقين لينظر إليهم ويشاهدهم ولا بأس أن نقف قليلا عند موضوع «المشاهدة» في هذا المقام. إن المشاهدة هي حاجة حقيقة وليست آلية. إذ ليس المقصود من النظر إلى الزهرة هو شراؤها. ولكن عادتنا ومقتضى حياتنا الدنيوية هي أننا عندما ننظر إلى الوردة ننظر إليها لنشتريها ثم لنضعها في البيت في سبيل أن نتفاخر بها. وقلّ ما نجد إنسانا يشتري الوردة لينظر إليها ولا يقصد وراء النظر أية غاية أخرى. إن النظر لدى أهل المعرفة هي الغاية بحد ذاتها وليست مقدمة لشيء آخر.
  •  إن المشاهدة بحاجة إلى إدراك الجمال في بداية الأمر، وبعد ذلك تحتاج إلى شعور روحي. إن إدراك الجمال وطلب الجمال غير متوفر لدى كثير من الناس. حيث إن علماء النفس لا يعتبرون النزعة إلى الجمال في عداد الاحتياجات الأولى لدى الإنسان. فهم يقسمون الحاجات إلى أربعة أقسام: على رأس قائمة احتياجات الإنسان هي الحاجات الحياتية التي تؤمن حياته وتقيه من الموت والهلاك. ثم تأتي في الدرجة الثانية الحاجة إلى اللذات، وبعد ذلك نصل إلى الحاجة إلى العاطفة والمشاعر. ويعتبرون آخر احتياجات الإنسان هي حاجته إلى الجمال. ولكن ترى بعض الناس قد شغفوا بحبّ الجمال قبل أن تتوفر لديهم احتياجاتهم الأولى.
  • إن سألني أحد عن سبب تديني أقل له: أنا التزم بديني لكي لا أذوق عذاب القبر، ولا أدخل نار جهنّم. يعني قد انطلقت في الالتزام بالدين من احتياجاتي الأولى ولم ارتفع للمستوى الذي أقول فيه قد اضطرّني إلى الالتزام بالدين جمال الله وحب مشاهدة المزيد من جماله.
  • إن الله سبحانه قد نهى عن الغيبة بذكر قبحها لا أضرارها. حيث قد صورّها كعمل قبيح جدا يشمئز منه الإنسان. ومن المهمّ أن تمتنع عن الغيبة لقبحها وحسب، وإلا فنستطيع أن نمتنع عنها فرارا من نار جهنّم. فإن امتنع أحد عن الغيبة لقبحها فقط، هذا إنسان يحبّ الجمال، والذي ينتهي عنها لخوفه من نار جهنّم فهو إنسان نفعي. ومقام حبّ الجمال أسمى من مقام النفعيّة بلا ريب.
  • ولعله لهذا السبب قد دعانا الإسلام إلى تجنب الشهوات. إذ أن الشهوات تعمي بصر الإنسان لرؤية مظاهر الجمال الإنساني فيصبح الإنسان بعد هذا العمي ينتهز أنواع الجمال في سبيل تلبية شهواته. أما الجمال الإنساني فهو ذو معان عميقة جدا حتى الجمال المادي السطحي فضلا عن الجمال المعنوي الذي هو أصل الجمال ورأسه وذو عمق واسع جدا. وما يجري الآن في الأفلام مع الأسف هو انتهاز واستغلال الجمال في سبيل مصالح ومنافع أخس منه رتبة وأدون منه ثمنا.  
  • إن طلب المشاهدة هو في سبيل أن يرى الإنسان ذاك الجمال ويتمتع به. والتمتع بالجمال يتم بمرحلتين: الأولى هي إدراكه والثانية هو عيشه والشعور به. يجب ان تعيش جمال الشيء الجميل.
  • المشكلة كل المشكلة هي في الشعور بالجمال ولمس الجمال المعنوي، وإلا ففي مرتبة العلم والإدراك لا يعوزنا شيء. نحن لا نحتاج في سبيل إدراك جمال الله والعلم بجماله أكثر من قوله: «قل هو الله أحد». ولكن ما يعوزنا هو الإحساس والشعور بهذا الجمال. نحن بحاجة إلى ما يجعلنا نشعر ونلمس جمال ما نعلمه من الله عز وجل. طبعا لا أنكر أثر بعض الكلمات اللطيفة والبديعة في مزق بعض الحجب الرقيقة ما قد تهزّ قلب الإنسان وتمهّده لتذوق بعض أنواع الجمال، ولكن لا تنحل المشكلة بشكل عام بإلقاء واستماع المحاضرات. لابدّ من تفريغ القلب لذلك.
  • كان أحد الشباب الجامعيين يتلو القرآن بجوار الكعبة فقال لي: قد اعتراني شعور أثناء تلاوتي لا أستطيع وصفه، وإن وصفته لا يدركه أحد. قال: أثناء ما كنت أتلو القرآن وجعت رجلاي إذ كنت أتلوه بلا وقفة لساعة أو ساعتين. فبينا أنا أتلو القرآن وإذا اعتراني شعور جعلني أبكي إلى الصبح. فقلت له لماذا؟ قال: رأيت فجأة كم أن الله قد تكلم عني وشؤوني مع نبيّه في القرآن، وكم قد صرف من وقته لذلك. فكدت أهلك من البكاء من كوني موجودا مهما لدى الله سبحانه ولهذا قد أنزل من أجلي هذا القرآن.
  • إن العلم هو الخطوة الأولى لإدراك الجمال، وما يحدث بعده هو الشعور. وهذا ما يقتضي شرح الصدر لإدراك جمال الله وأسمائه.
  • كتب لي شابّ آخر وقال لي قد أهلكتني عبارة واحدة من عبارات دعاء الجوشن الكبير في جلسة إحيائنا في ليلة القدر، ما جعلتني أجهش بالبكاء إلى صباح تلك الليلة وهي عبارة «يا ذا العهد والوفاء». قال: شعرت فجأة بهذه الحقيقة وهي أنه ليس لأحد في هذه الدنيا أن يعطيني كلاما ويعاهدني على شيء، إذ ليس بيد أحد شيء ولا يوجد ذو وفاء في هذا العالم. فالشخص الوحيد الذي عهد ويوفي بعهده هو الله سبحانه، إذ شاهدت عهده ووفاءه.
  • فإذا طالبتم هذا الشابّ أن يشرح لكم هذه العبارة لتدركوا جمالها وحرارتها فلا يمكن. فلا تعالج المشكلة بالشرح، بل نحن بحاجة إلى عملية تشريح في صدورنا وقلوبنا ليتمكن القلب من مشاهدة هذا الجمال.
  • في سبيل كسب هذا الشعور وتعزيزه الذي يجعل الجمال على رأس حاجات الإنسان ويمكنه من إدراك جمال الله، لابدّ اجتياز بعض المقدمات والمراحل.

1ـ الابتعاد عن القبائح

  • فعلى سبيل المثال لابدّ للإنسان أن يغضّ عين قلبه عن المشاهد غير الجميلة في العالم. لابدّ أن يكفّ عن إنتاج ما ليس بجميل. كيف يريد الإنسان أن يشعر بجمال الله وهو ينتج غير الجميل بأعماله وصفاته. فإذا كان الإنسان ينتج الأفعال القبيحة وغير الجميلة، عند ذلك تعجز روحه عن إدراك مصاديق الجمال في هذا العالم. فلا يشعر حينئذ بجمال الله. يجب أن يبتعد الإنسان عن الغيبة والكذب وباقي السيئات والقبائح حتى تتمهد روحه لإدراك الجمال.
  • من مراقبات العطّار أنه لا يشتمّ أية رائحة، حتى يحافظ على شامته وذوقها. ومن هذا المنطلق تجدون الشيخ بهجت(رض) ما كان ينظر إلى كل شخص ولا يكلم كل إنسان، حيث كان يراقب نوافذ قلبه ولا سيما عينه وسمعه. فليس لنا بد من هذه المراقبات.
  • قال لي أحد الشباب: نحن في أجواء هذه المدينة، فنتلوث بأشكال المشاهد والصور والأحاديث شئنا أم أبينا، فما نفعل؟ قلت له: اقرأ القرآن ليلا، وطهر أوساخ قلبك بجمال آيات القرآن. وهذا أمر لابدّ منه.
  • وبالتأكيد ليست الأفعال القبيحة هي كلّ ما ينبغي الإنسان أن يجتنبه، فلابدّ من الاجتناب عن الأفكار القبيحة والرغبات القبيحة كالحقد على الآخرين. فلنحاول أن نبعد كل هذه الأمور عن قلبنا. ونفرّغه لإدراك الجمال. فإن الهجرة إلى الله بدافع الجمال لها طعم آخر.

2ـ مصاحبة أهل الجمال

  • الخطوة الأخرى التي لابدّ أن نخطوها في هذا المسار هو مصاحبة أهل الجمال. إن أئمتنا المعصومين هم «وجه الله»، فلنصاحبهم ونستأنس بهم، فعند ذلك تتغير ذائقتنا ونستأنس حينها بجمالهم.

3ـ الخلوة مع الطبيعة

  • كما ينبغي أن لا نمرّ مرور الكرام عن جمال الطبيعة. حيث يعتبر الفنانون بأجمعهم أن هذا الجمال الطبيعي هو مصدر إدراك الجمال بشكل عام. فلتكن لكم خلوة مع الطبيعة، مع الليل ونجومه، مع الصحاري والجبال والبحار. فإن الخلوة مع الطبيعة مستحسن جدا.
  • أنا أعتقد أن ما قاله أمير المؤمنين(ع) أن: «النَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ يُسْر؛ صحفيفة الإمام الرضا(ع)، ص72»، لم يكن بغرض صحة الجسم وحسب. واستبعد أن تكون بعض إرشادات أمير المؤمنين(ع) ذات بعد واحد، ولا يمكن افتراض الحياة ذات بعد واحد. عندما يوصي أمير المؤمنين بهذه التوصية فلابدّ أن يكون في هذا النظر أثر خاص على روح الإنسان. 
  • على كل نحن بحاجة إلى مراقبة عامة في سبيل تطهير القلب من الأوساخ والقبائح لكي نتمكن من إدراك الجمال المعنوي في هذا العالم.
 

[1] . بحار الأنوار، ج1، ص224.

تعليق