الطريق الوحيد معالم الأسرة الصالحة رحلة الأربعين تعرف علینا بقلم استاذ البريد الكتروني فیسبوک تويتر انستقرام تلغرام

جديدنا

۹۹/۰۹/۱۶ چاپ
 

أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع (المحاضرة6)

المجتمع الذي تُفتقد فيه المواساة يُوصِله الفكرُ الليبرالي إلى الحضيض/ لا يُبسط العدل في مجتمع أفراده أَشِحَّة/ يهبط البعض بالمواساة إلى مستوى الصدقة، ولكنها أعلى من ذلك

الهويّة:

  • الزمان: 05/محرم الحرام/1442 - 25/آب/2020
  • الموضوع: أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع
  • المكان: طهران، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)
  • الصوت:(32MB) تنزیل
  • A4|A5 :pdf

 

علينا أن نخصص جزءًا من وقتنا "لمواجهة مكر أنفسنا"

  • لا بد أنكم ملتفتون إلى أن الإنسان كائن في غاية التعقيد، وبارع في التسويغ [لأفعاله]، وله نفس ماكرة، وهو يسعى على الدوام لخداع ذاته أو غيره عن وعي أو غير وعي. وإن على كل امرئ أن يخصص وقتًا من حياته لمواجهة مكر نفسه. فلا أحد في مأمن من نفسه الأمّارة بالسوء، فهناك مسوغات جيدة للكثير من مساوئ الناس وإنهم ليُخفون مساوئهم حتى عن أنفسهم.
  • وإن معرفة النفس هي على جانب من التعقيد والصعوبة والقيمة حتى عُدَّت مساوية لمعرفة الله عز وجل: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّه» (غرر الحكم/ ص588).
     

"محاسبة النفس" و"الاستغفار والتضرع" سبيلان مهمتان لمعرفة النفس ومَكرها

  • علينا أن نبالغ في محاسبة أنفسنا. فإن مما رُوي عن أهل البيت(ع) هو قولهم: «لَيْسَ‏ مِنَّا مَنْ‏ لَمْ‏ يُحَاسِبْ‏ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَوْم» (الكافي/ ج2/ ص453). وأضأل قسم من محاسبة النفس هو سؤالنا أنفسَنا: "ماذا فعلتُ؟" لكن القسم الأهم جدًا منه، والذي لا يتسنى للمرء أن يجيب عليه بهذه البساطة، هو: "لماذا فعلتُ ما فعلتُ؟"
  • وإن محاسبة النفس هي إحدى السبل لمعرفة النفس والوقوف على مكرها. والسبيل الأخرى لذلك هي الاستغفار والتضرع المتواصلَين. أقولها بكل بساطة ومن دون أدنى تكلف: لقد أوصونا بأن نقف على أعتاب ربنا في الأسحار قائلين ثلاثمائة مرة: إلهي، لقد ارتكبت حماقة؛ إلهي، «العفو...». ويتبادر إلى أذهان الكثيرين الاستفهام القائل: "وما الذي صنعتُه يا ترى [لأسأل الله كل هذا العفو]؟" فلنفرض أن جميع أفعالي كانت بذيئة، لكن هل ارتكبتُ ثلاثمائة خطيئة [في اليوم الواحد] يا ترى لكي أسأل الله كل هذا "العفو"؟ عليك أن تفتش عن أنه: ما السبب الذي جعلَهم(ع) يوصوننا بهذا؟ رُوي عن رسول الله(ص) أنه كان يستغفر الله تعالى مائة مرة في اليوم والليلة على الأقل؛ «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» (جامع الأخبار/ ص57).
  • على كل شخص، وإن لم يعثر في أعماله على معصية، أن يخصص في منهاجه وقتًا يتوجه فيه إلى ربه بالاستغفار، فيخاطبه: "إلهي، لقد ارتكبتُ حماقة!" فيتبادر إلى ذهنه تساؤل من أنه: "وماذا صنعتُ كي أعتذر؟!" وهذا التساؤل هو بداية طريق معرفة النفس واتّقاء مكرها.
     

في وسع الإنسان أن يفعل الخير انطلاقًا من دوافعه وصفاته السيئة

  • بطبيعة الحال لا الدين مُعقّد ولا المعرفة الدينية معقدة. فمتى ما رأيت الدين قد تعقَّد وصار بحاجة إلى تبادل الكلام والحوار فاعلم أن االتعقيد من الإنسان نفسه. ففي وسع البشر أن يأتوا بفعال خيّرة انطلاقًا من دوافعهم وصفاتهم السيئة؛ كأن يعطوا الأولوية لأفعالِ خيرٍ ليس لها الأولوية ويُعفوا أنفُسَهم من غيرها بالقول: "لقد قمتُ بعمل خيّر!" في حين أنهم قد تركوا فعل خيرٍ له الأولوية لصعوبته عليهم.
  • إن باستطاعة الإنسان التلاعب بأي مفهوم ديني. فأكثر مفاهيم الدين أهمية هو مفهوم الولاية والولائية، أو - على رأي بعض التوحيديين المتطرفين - مفهوم التوحيد؛ ألم يفصل التكفيريون والوهابيون رؤوس الأبرياء عن أجسادهم باسم التوحيد؟! ولنتناول الولاية؛ أليس ثمة في آخر الزمان من الولائيين ممن سيتخذ الولائية هذه أداة بيد أهوائه فيقف بوجه الولي؟ أوَلَم يقل الإمام الرضا(ع): «إِنَّ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مَوَدَّتَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ مَنْ‏ هُوَ أَشَدُّ فِتْنَةً عَلَى شِيعَتِنَا مِنَ الدَّجَّال؟!» (وسائل الشيعة/ ج16/ ص179).
  • ألا وإن الأخلاق ليست بالشيء السيّئ، لكن البعض يتخذها مستمسَكًا للخروج على الدين. كما يتمسك غيرهم بالعدل فيحارب التقوى والولاية ومفاهيم أخرى. وهل تلاوة القرآن شيء سيّئ؟ وأي شيء عندنا أعز من القرآن الكريم؟ لكنه جاء في الخبر أنه: «رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُه» (وسائل الشيعة/ ج4/ ص249).
     

علينا أن نحدد تكليفنا في أنّ الوقتَ الحالي هو أوانُ إنجازِ أي عمل صالح؟

  • النفس الإنسانية ماكرة. وطالما بقي هذا التعقيد في روح الإنسان فلن تذر الامتحاناتُ الإلهية الناسَ حتى تُمَحّصهم وتعرف صدقهم. فعلى المرء في أي عمل خيِّر يهُمُّ بفعله أو قولٍ صالح يريد قوله أن يرجع إلى نفسه، ويلقي نظرة، ويقلّب الأمرَ ظهرًا لبطن؛ من جهة الدافع من وراء هذا المفهوم الخيّر، وأسلوب ارتباطه به، ولوازمه؛ فينظر إن كان قد راعى لوازمه أم لم يراعها؟ كي لا يتحول هذا العمل الصالح إلى مصدر لتحقيق الربح لنفسه!
  • الإنسان كائن معقد. وإن من دواعي مثل هذه الحوارات والنقاشات والتأملات وإقامة مثل هذه المجالس – التي هي مجالس فكر – هو الوقوف أمام خداع النفس ليعرف المرء الوقت المناسب للقيام بكل عمل خيّر، وهذا أمر في منتهى الأهمية. ذات مرة كان أحدهم متحيّرًا بين بضعة أمور ويقول: من أين لي أن أعرف ما هو تكليفي الآن؟ قلت له: إنك تطرح أكبر معضلة يواجهها كبار العرفاء، أوَتظن أنك ستحصل على الجواب بهذه السهولة! أتتصوّر أنك ستجيب على سؤالك هذا ببضع تحليلات وحسابات متداولة؟ ما الذي على المرء صنعه لمعرفة تكليفه في أنه: ما العمل الصالح الذي يتوجب عليه الآن القيام به من بين عدة أعمال صالحة؟
     

ليست الأمور كلها واضحة، ولذا نحن بحاجة في كل لحظة إلى هدى الله تعالى

  • أُنبّه الشباب والأحداث إلى أنه: لا تتخيلوا أبدًا أنه بمجرد أن أصبحتم صالحين ستتوضح لكم الأمور قاطبة؛ فلن يعمل العلماء، مثلاً، على تزويدك بلائحة ما يجب عليك القيام به من الصباح حتى المساء، ثم يعطونك علامة القبول في الامتحان! أهو درس رياضيات، أو جغرافيا، أو تاريخ في مدرسة ليكون كل شيء واضحًا؟!
  • لو علّموك الكتاب (القرآن الكريم) كله فستكون للتَوّ بحاجة إلى شيء آخر هو "الحكمة"؛ وهي أن تعرف أنت ما عليك فعله! الحكمة لا تأتي من صفحات الكتاب.. إنك بحاجة إلى فرقان وبصيرة. الإنسان لم يخلقه الله عز وجل بحيث يزوّده أنبياءُ الله وأولياؤه بمنهاج فيعمل هو بموجبه. الطيارون مثلاً لديهم قائمة بالإجراءات التي عليهم مراجعتها وتنفيذها واحدًا واحدًا لدى إقلاع الطائرة وهبوطها، وواجبهم معلوم في كل الأحوال. أما التديّن فليس هو بأن يزوّدوك بقائمة من التعليمات والإجراءات لتنفّذها، بل عليك أنت لوحدك أن تحدد المصاديق للكثير من واجباتك. والأمر يعتمد على ابتكارك ونيّتك بأنه: كم على الله أن يوحي إليك ما تصنع؟
  • ولا أريد أن أُصَعِّب الأمر، فإن كان المرء سليم الطَوِيّة، وتحرّى الدقة، واستغفر ربه، وحاسب نفسه، وتوكل على الله، وتوسل به، ولم يُخفِ مرضًا من أمراض نفسه عمدًا، وكان نقيًّا فسيهديه الله تعالى سواء السبيل ويأخذ بيده. إنك تقول لربك في صلاتك في كل مرة: «اِهْدِنا الصِّراطَ المُستَقيم»؛ فليست القضية أن يكون الله تبارك وتعالى قد هداك مُسبقاً ثم تخاطبه أنت: "أنا سأقرأ القرآن بنفسي وأنفّذ تعاليمه، شكرًا جزيلًا! تفضل أنت ومارس مهامّك، فأنا لم أعد بحاجة إليك!" كلا، بل نحن محتاجون في كل لحظة إلى هداية الله سبحانه. فلنحذر أن نتلاعب بالصلاة، وبالقرآن، وبالأخلاق، وبالعدالة، وبالولاية. فإن النفس الإنسانية معقدة وماكرة. هذه هي المقدمة الأولى.
     

موضوع الساعة الذي نتناوله هو: ارتباط المؤمنين وتعاطيهم فيما بينهم

  • سنتحدث حول موضوع واحد من جهتين: الأولى هي أهمية الموضوع بذاته ومنزلته من الدين، والثانية هي تناسبه مع زماننا؛ وهو أنه: أوانُ ماذا الآن؟ وأيّ الأمور هو أهم؟ وعلى أي موضوع يجب أن نؤكد أكثر في الوقت الحاضر؟
  • «العالِم بِزَمَانِهِ لا تَهجُمُ عَلَيهِ اللوابِس» (الكافي/ ج1/ ص27)؛ أي إن الذي لا يعرف زمانه يزداد وقوعه في الأخطاء. لكن ما الذي يحدد: أي زمنٍ نحن فيه؟ هنا ينبغي أن يكون لدينا أُسس؛ أسس دينية، وعقلية، وأسس ترتبط بعلم الإنسان، والاجتماع، والتاريخ وأنه في أي مرحلة من التاريخ نحن. إن خطةً استراتيجية صحيحة من شأنها أن تنقذ الفرد والمجتمع. فلو أنك قمت بأعمال الخير جميعًا لكن ليس في وقتها فلن ينفعك أي منها. فإنّ نفسَك اللعوب، الأمّارة بالسوء، الماكرة ذاتها تعمل على إفسادك من خلال أعمال الخير هذه بالذات.
  • نحن نتناول موضوعًا هو الآن موضوع الساعة؛ وهو يتصل بارتباط المؤمنين فيما بينهم، وأسلوب تعاطيهم مع بعضهم البعض، وإيثار غيرهم من المؤمنين على أنفسهم؛ وهذا يتصل بموضوع عدم البُخل. ويشمل نطاق بحثنا مواضيع من قبيل: الإنفاق، والزكاة، والمواساة، والإيثار، والتعاون، والأخوّة، والأواصر بين المؤمنين.
     

لتحقق الولائية هناك امتحان عظيم هو الصلة بين الولائيين

  • ما مدى أولوية هذا الموضوع الآن؟ أهو الأهم الآن أم غيره؟ بصريح الروايات وبحسب الكثير من الآيات القرآنية فإن موضوع الولاية هو أهم المواضيع، لكن لو طلب إلَيّ اليوم أن أتحدث عن الولاية لقلتُ: الحمد لله إن هيبة الولاية وجدواها وحقيقتها باتت اليوم راسخة في نفوس أفراد مجتمعنا المؤمن على أقل تقدير، وإن أكثر ما نحن بحاجة إليه اليوم بخصوص الولاية هو علاقة الولائيين العرْضية فيما بينهم، لا علاقتنا الطولية مع إمام عصرنا(عج). فالولاية على نوعَين: ولاية طُولِية، وولاية عرْضية؛ فالولاية الطولية هي اتّباع الولائيين لإمامهم(ع)، أما الولاية العرضية فهي تحدد الصلة بين الولائيين. وهاهنا يكمن النقص الذي نعانيه في الوقت الحاضر، وهذا هو النقص الذي يتوجب علينا إصلاحه.
  • يقول البعض: "إنْ يأمرني الولي بالأمر الفلاني فسأمتثل"، وهؤلاء هم حقًّا ولائيون، لكن سلوكهم مع باقي الولائيين ليس على ما يرام. كيف ينبغي أن تكون أواصر الولائيين فيما بينهم؟ ليس من المفترض أن تُصدَر الأوامر تلو الأخرى في هذا الصدد. فثمة امتحان عظيم لتحقق الولائية هو "الصلة بين الولائيين". لا أدري إن كنا نجحنا في هذا الامتحان العظيم أو لا؟ ما زالت هذه هي مشكلتنا. فإنْ كانت السيول والزلازل قد أقحمَتْنا في تحَدٍّ وكان الولائيون سباقين في هذا المضمار فإنما هو تمرين لهذا الميدان، والإجابة الصحيحة لهذا الامتحان بالذات، وهو "كيف تكون أواصر الولائيين فيما بينهم؟" في تصوري إن علاقة الولائيين فيما بينهم ينبغي أن تكون أمتَن، بل أمتن بكثير مما هي عليه الآن. فأهل البيت(ع)، انطلاقًا مما في أيدينا من الأحاديث، يتوقعون منا أكثر من هذا بكثير؛ فنحن إلى الآن لم نَرقَ إلى ما يتوقعه أهل البيت(ع) منا.
     

معرفة العدو مهمة، لكن أعداءنا اليوم قد فضحوا أنفسهم

  • معرفة الزمان هي أن نعرف: في أي زمان نحن اليوم؟ تجاه أي شيء علينا اليوم أن نكون أكثر حساسية؟ على سبيل المثال، جهاد الأعداء أمر مهم، ومعرفة العدو موضوع في غاية الأهمية. في مجالس محرم قبل خمسة عشر أو ستة عشر عامًا كان موضوع بحثي يدور كله حول معرفة العدو لأن الناس كانوا قد نسوا أن لنا عدوًّا. لكن عِداء أمريكا والصهيونية والاستكبار بات الآن مكشوفًا إلى درجة أن كل من يريد اليوم مناهضة الثورة الإسلامية بات يستجدي على أعتاب آل سعود. فهل يتوجب عليَّ، والحال هذه، أن أقنع الناس بأن أمريكا وآل سعود أعداء؟ أيُّ أحمق لا يدري أن أمريكا دنيئة؟
  • الحمد لله أن أعداءنا هم على جانب من الإجرام بحيث فضحوا هم أنفسَهم. بالطبع هذا لا يعني أنه ليس لنا الآن أعداء، بل إن لنا أعداءً ونحن في حرب معهم.
     

عهد المطالبة بالعدالة قائم دومًا، لكن "عهد الحديث عن المطالبة بالعدالة" قد وَلّى

  • طرحتُ في الليلة الماضية موضوعًا أساء البعضُ فهمَه. قال لي أحدهم: "ألا تريد الحديث حول المطالبة بالعدالة؟" فأجبته: "كلا، فزمان المطالبة بالعدالة قد وَلّى". بالطبع حين قلتُ إن "عهد المطالبة بالعدالة قد وَلّى" فهو من باب أني لا أريد أن أجعل موضوع محاضراتي المطالبة بالعدالة، وليس أن أدّعي أن عهد المطالبة بالعدالة قد وَلّى مطلقًا.
  • لسنا الآن بحاجة إلى الترويج للمطالبة بالعدالة بين الناس، بل إنه أوان تطبيق العدالة؛ كما تقوم السلطة القضائية الآن بتطبيقها. حتى العام الماضي كنا نقول للسلطة القضائية: "إنكم تُلقون القبض على المجرم، لكن ماذا تصنعون بمن لا يؤدي واجبَه؟" وقد وجّهنا مناشدات في هذا الخصوص. فأجاب رئيس السلطة القضائية الموقر: "سنتصدى من الآن فصاعدًا لترك أداء الواجب أيضاً، أي سنحاكم كل من لا يعمل". على أن العدل لا يُبسَط عن طريق السلطة القضائية فحسب، بل إن على مجلس الشورى الإسلامي، وحكومة الجمهورية الإسلامية أيضاً أن يعملا على بسط العدل.
  • إن عجلة المطالبة بالعدالة تدور، وإن اهتمام الجماهير بالعدالة عالٍ. فما الداعي إلى دفع شيء عجلتُه تدور؟ عهدُ المطالبة بالعدالة قائم دومًا، لكن عهد الحديث عن المطالبة بالعدالة قد وَلّى. لقد ذكرتُ قبل شهر في حوار مع الموقع الالكتروني لسماحة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي (دام ظله): إخفاقاتنا السابقة في مجال العدالة تعود إلى أن مستوى المطالبة بالعدالة كان منخفضًا وكان لا بد أن يرتفع، ولقد ارتفع الآن ولله الحمد. فالمطالبة بالعدالة لا تعرف النهاية!
  • هناك بضعة أنواع من التيارات المطالبة بالعدالة، كما هو الحال بالنسبة إلى التيارات الأخلاقية والمعنوية والولائية. الولائيون، على سبيل المثال، أنواع: فالولائيون الذين لا شأن لهم بالسياسة ومقارعة الاستكبار، والولائيون الذين يتعاطون السياسة ومقارعة الاستكبار. وكذا الأمر بالنسبة للمطالبين بالعدالة؛ فهناك المجرَّدون عن التقوى والولائية، وهناك المتقون الولائيون. فإن المطالبة بالعدالة بعيدًا عن التقوى أمر يسير؛ كمن يسحق كرامة الناس - التي هي أهم من الكعبة المشَرَّفة - بذريعة المطالبة بالعدالة.
     

ما ينبغي تدريب جنود صاحب الزمان(ع) عليه ليس العدالة، الأولوية اليوم للمواساة

  • الموضوع الذي أراه أشد ضرورة من الدعوة إلى المطالبة بالعدالة هو المواساة؛ إنه موضوع استعداد المرء لغض الطرف عن ممتلكاته. هذا ما علينا أن نُروّج له اليوم. وهل يقود طرح هذا الموضوع إلى ممارسة ضغط على المسؤولين أو لا؟ أجل يقود. إننا نعُد قائد الثورة الإمام الخامنئي (دام ظله) أعلى من أن يكون أسوة في بسط العدالة، إننا نراه أسوة في تطبيق المواساة؛ فإن امتناعه عن أكل معظم الفواكه الباهظة الثمن حتى قبل انتصار الثورة، حين لم تكن له مسؤولية، هو فوق العدالة، إنها المواساة. البعض يترجم المواساة بـ"الإعانة على خلفية الإيمان"، لكنها فوق ذلك. المواساة تعني أنه لا يحق لك أن تعيش أفضل من أخيك، حتى في خَلوَتك! فكم من مسؤولي الدولة يَحذُون حذو القائد (حفظه الله) والإمام(ره) في قضية المواساة؟!
  • إن ما له الأولوية اليوم هو موضوع المواساة. إني أخاطبكم أنتم أيها المؤمنون، يا من تلطمون الصدور على أبي عبد الله الحسين(ع). أنتم تجتمعون الآن في خيمة أبي عبد الله الحسين(ع)، لقد جئتم إلى معسكر صاحب العصر والزمان أرواحنا له الفداء. وإن هذا الجيش، باعتقادنا، وحدة عسكرية تحت قيادة صاحب الزمان(ع). إن ما ينبغي تدريب جندي صاحب الزمان(ع) عليه ليس تطبيق العدالة، بل يجب أن يقال له: "لا يكُن طعامُك غير الخبز اليابس! أجاهزٌ أنت لهذا المشهد أم لا؟" إننا نتحدث الآن عن هذا الجانب من القضية، وهو: "ما هو واجبنا نحن أبناء الشعب؟" إننا لو اجتنَبنا "البُخل" لحدثَت في حياتنا تطوّرات مُذهلة، وإن البُخل حين يُنبَذ ويُدان في ثقافة المجتمع فلن يبقى للحيف والضيم موطئ قدَم على الإطلاق.

ليست "المواساة" تصدُّقًا، إنها نمط حياة/ امتحاناتنا تشير إلى ضرورة أن ننهج ثقافة المواساة

  • إذن أحد مواضيع مجلسنا هذا هو أنه: زمان أي شيء هو زماننا الحالي؟ اليوم يجب أن نخاطب المسؤول الذي يسعى لخدمة الضعفاء بالقول: "تعال أنت وانهج نهج المواساة في عيشك.. عِش حياةً أكثر زهدًا". أساسًا، الذي يتولّى مسؤولية لماذا يُمنَح راتبًا إذا كان هو متمكّنًا ماليًّا؟ ألَم يُخرِج أمير المؤمنين(ع) كيس مؤونته للناس مُخبرًا إياهم أن: هذا ليس من بيت المال، بل من مالي الخاص؟!
  • إننا عندما نتّجه صوب المواساة في حدود تسلُّم الرواتب فإن أنواع السرقة ستنتهي هي الأخرى كتحصيل حاصل، وسيكون تطبيق العدالة "أي توفير الإمكانيات للجميع بالتساوي وبحسب القابليات" من المُسَلّمات. القضية في الوقت الحاضر هي قضية المواساة. وليست المواساة تصدُّقًا، إنها نمط حياة. ثقافة المواساة ستغير نمط حياة المسؤولين أكثر من باقي أفراد الشعب.
  • لماذا یجب أن نتبنّى اليوم ثقافة المواساة؟ في المجتمع الذي تُفتقد فيه المواساة يحصد الفكرُ الليبرالي الأصوات في الانتخابات ويجُرّ البلد إلى الحضيض، أما إذا طغت عليه ثقافة المواساة فلن يكون لذوي المنحى الليبرالي موطئ قدم فيه، فما بالك بفوزهم في الانتخابات. إننا نطالب بثقافة المواساة هذه، ولا شك أنه سيكون لها أثر سياسي أيضًا. هذا بالإضافة إلى أن امتحاناتنا تشير إلى ضرورة أن ننهج ثقافة المواساة، وإن ألوان الأذى التي طالت الجماهير تؤكد ضرورة هذا الموضوع أيضًا.
     

الإصرار على مقارنة مفهوم بآخر هو لمواجهة مكر النفس

  • وبمعزل عن أن زماننا الحالي هو زمان أي شيء؟ لا بد من القول، في القسم الثاني من المحاضرة: المفاهيم، بحد ذاتها، يمكن مقارنة بعضها ببعض. يقول البعض: لماذا كل هذا الإصرار على مقارنة المفهوم بالمفهوم الآخر؟ الله عز وجل في كتابه العزيز يقارن أحيانًا بين عملَين صالحَين. كما تكرر في الأحاديث أيضًا قياس عمل صالح بآخر مرارًا. إن الإنسان ليخرُج بهذه المقارنات بنتائج مهمة، وإنه بهذه المقارنات تحديدًا نستطيع مواجهة مَكر النفس.
  • الإمام الباقر(ع)، في ما روي عنه، يقيس الولاية بالمناسك العبادية الأخرى ويصرح بأنه ما من عمل يوازي الولاية: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالحَجِّ، وَالوَلايَةِ، وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالوَلايَة» (الكافي/ ج2/ ص18). وسبب أفضلية الولاية هو أن الولي هو الذي يطبّق العدل والكثير من الأمور الأخرى.
     

الشُحّ، من زاويةٍ من الزوايا، هو أهم مشاكل الإنسان والمجتمع البشري

  • يروى أن أمير المؤمنين علي(ع) بعث إلى رجل بهدية فقال رجل لأمير المؤمنين(ع): "لماذا بعثت إليه بهذه الهدية؟" على أن الأخير صاغ كلامه بطريقة جميلة؛ فبيّن مثلًا أن الرجل لا يستحق منك كل هذه الهدية فلماذا تبعثر مالك هدرًا ...الخ. فاستنكر عليه الإمام(ع) ذلك بأنني أعطيه من مالي، فلماذا هذا البخل منك؟! «عن أبي عبد الله(ع) أنّ أمير المؤمنين(ع) بعثَ إلى رجل بخمسة أوساق من تَمْر البُغَيبِغَة [منطقة]... فقال رجلٌ لأمير المؤمنين(ع): والله ما سألكَ فلان، ولقد كان يُجزِئُه من الخمسة الأوساق وسق واحد! فقال له أمير المؤمنين(ع): لا كَثّرَ اللهُ في‏ المؤمنين‏ ضَرْبَك،‏ أُعطي أنا وتبخلُ أنتَ!‏» (الكافي/ ج4/ ص22-23).
  • فبمعزل عن أنه يمكن القول: "أي موضوع نتناول في زماننا هذا؟" قد يكون بالإمكان أيضًا أن نطرح السؤال هكذا: "أي الأشياء هو الأهم ذاتًا؟" إن أهم مشاكل الإنسان والمجتمع البشري، من زاوية من الزوايا، هو الشُحّ والبخل والإمساك والتحفظ. وأين تكمن أهميته؟ تكمن في أن استئصاله سيمنع ترسخ الثقافة المنحطة للحضارة الغربية الخاوية المتآكلة في مجتمعنا. ولقد استطاعت بعض مظاهر المواساة في أيام الكورونا هذه أن ترفع رأس شعبنا عاليًا.

الشح أسوأ حتى من الظلم

  • بمعزل عن موضوع الزمان، فلننظر ما هي منزلة الإمساك في الدين؟ لقد دارت بداية بحثنا حول أن نبي الله آدم(ع) كان قد سقط حين لم يرغب في التخلي عن ممتلكاته. وإني أرى أن المواساة، في عملية تربية الإنسان، لها الأولوية على العدالة، حتى إذا وضعنا مسألة الزمان الحاضر جانبًا. وسأتلو على مسامعكم في هذا الصدد حديثًا عن أمير المؤمنين(ع) يبيّن أن الشح شر من الظلم.
  • يقول البعض: "لماذا تقارن بين المفاهيم؟" وأريد أن أنقل لكم هنا نموذجًا مما جاء في الروايات من المقارنات. رُوي عن الإمام الباقر(ع): «أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ(ع) سَمِعَ رَجُلًا يَقُول: إِنَّ الشَّحِيحَ أَعذَرُ مِنَ الظَّالِم‏» لأن الشحيح لا يُؤذي أحدًا أما الظالم فيؤذي الناس، ولهذا فهو أسوأ. والحقيقة أن هذا الشخص قد قارن بين الشحيح والظالم. وقد يتبادر إلى أذهاننا الشيء نفسه، لكن لننظر بماذا أجابه الإمام علي(ع)؟
  • «فَقَالَ لَهُ(ع): كَذَبْتَ» أنتَ مخطئ! «إِنَّ الظَّالِمَ قَدْ يَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَرُدُّ الظُّلَامَةَ عَلَى أَهْلِهَا»؛ أي من الممكن أن يتوب الظالم من ظُلمه ويكُفَّ عنه، ثم قد يُصلِح ما فعلَه. فإن للظُلم آثارًا قد تدفع المرء إلى الندم على فعله وإن قُبحَه ليس أشد من الشُحّ. ثم يقول(ع): «وَالشَّحِيحُ‏ إِذَا شَحَّ مَنَعَ‏ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ وَإِقْرَاءَ الضَّيْفِ‏ وَالنَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ الله‏ عَزَّ وَجَلَّ وَأَبْوَابَ الْبِرِّ وَحَرَامٌ عَلَى الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَهَا شَحِيح» (من لا يحضره الفقيه/ ج2/ ص63).
     

لا يُبسط العدل في مجتمع أفراده أَشِحَّة

  • قد نقول نحن: البخيل لا يفعل شيئًا ذا بال، كل ما هنالك أنه لا يبذل المال، وهذا ليس بالأمر السيّئ جدًا، أما من يمارس الظلم ففعله أشنع بكثير! لكن لا بد من الالتفات إلى أن أمير المؤمنين(ع) لا يقصد: "اتركوا الظالم!" بل القصد، في الواقع، هو أن من السهل في المجتمع الإيقاع بالظالم ومؤاخذته، ومن اليسير رفع الظُلم عن المجتمع، أما الشُحّ فهو "أم الفساد"! إن المجتمع الذي يكون جميع أفراده بخلاء سوف يعُمّ فيه ظلمٌ لا يستطيع أحدٌ منعَه، حتى علي بن أبي طالب(ع)! المجتمع الذي سُلِّم لأمير المؤمنين(ع) كان مجتمعًا طُبِّع أفرادُه على الشُحّ وجُعِلوا سُجناءه وأذِلّاءَه.. كان أمير المؤمنين(ع) في قمة العدالة لكن أفراد ذاك المجتمع لم ينصروه، بل تركوه وحيدًا حتى مات غمًّا من ظُلم رعِيّته!
  • لماذا يرى أميرُ المؤمنين(ع) أن الشُحَّ أسوأ؟ قد لا تكون في أيدينا، أنا وأنت، حِيلة فلا نظلم، لكن هل نحن أشِحّة أو لا؟ فإن كنا أشحة فلسنا جديرين ببسط العدل. لن تُبسط العدالة في مجتمع نحن أشحة فيه. الذين في مقدورهم بسط العدل في المجتمع هم أهل المواساة والإيثار.
  • إذا أردتُ أن أربّي أولادي فسأُقيم تربيتهم على ركيزة "إزالة الشح" من أنفسهم، وحينئذ لن يمارسوا الظلم أيضًا. سأقيمها على الإيثار، لا على الإنصاف والعدالة. فإن أقمتُها على الإيثار، فسيلتزمون بالعدل والإنصاف أيضًا؛ إذ سيكون هذا تحصيل حاصل.
  • يَستخلص البعض من نهج البلاغة أن "العدل هو الأساس في الحكم" ولا يستطيع الاستنتاج مما استخلصَه! والحال أننا هنا لا نمارس الحكم، بل نربّي النفوس. إننا نتجاذب مع بعضنا أطراف الحديث. إنّ أعدلَ نظام حُكم وأشدّه انتهاجًا للعدل لا ينجح وسطَ رعيّة تفشّت فيهم ثقافة الشُحّ! والنموذج هو حُكم علي بن أبي طالب(ع)؛ فقد كان ذروةَ العدالة، لكن بين أناس ابتُلوا بأنفُسٍ شُحّ! فلنقتلع هذا الشُح ليَظهر صاحبُ الزمان(عج) ويقيم دولته العادلة.

يا صاحب الزمان، كم ترى فينا من البخل فلا تقبلنا؟

  • ليلة عاشوراء هي ليلة قَدْرنا، الليلة التي يحدَّد فيها قدْرُنا، وإلى أي مدى نحن أنصار صاحب الزمان(ع) وحسينِ زماننا؟ يابن الحسن، يا صاحب الزمان، إننا مجتمعون في مخيّمك.. نتوسل إليك.. لم نأت لحضور مراسيم رسمية.. إننا مكروبون! فمتى إذن تختارنا لصُحبتك؟ لو كنتَ اخترتَنا لظهرتَ من غَيبتك. كم ترى فينا من البخل؟ كم تلمس فينا من الإمساك فلا تقبلنا؟ أي شيء نحن غير جاهزين للتضحية به في سبيلك ونحن أنفسنا لا ندري؟

تعليق