تحمّل المسؤولية والاستقلالية أهم مؤشرات الولائية (المحاضرة 5)

الدين كلّه منهاج للتحرّر ونيل الاستقلاليّة/ "الإيمان بالغيب" هو الاسم الحركي لاستقلاليّة الإنسان/ المراحل السبع التي تُوصِلنا إلى ذروة الاستقلاليّة

الهويّة:

• المكان: كلية الإمام علي(ع) الحربية، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)

• الزمان: 04/ محرم/ 1443 - 13/ آب/ 2021

• A4|A5 :pdf

مراحل بلوغ الاستقلاليّة

• تحدّثنا في الليالي الماضية عن أهمّيّة الاستقلاليّة وناقشنا معًا بعض التحدّيات التي تواجه عمليّة تعزيز روح النزوع إلى الاستقلاليّة في الفرد والمجتمع، ففسّرنا الدين بالاستقلاليّة والمطالَبة بها، وتقوية روح النزوع إليها، وجعْل الإنسان مستقلًّا من ناحية، ورأينا – من ناحية أخرى – كيف يصار، خارج دائرة الدين وفي كلّ ما هو غير ديني، إلى استعباد الإنسان وإضعافه. أمّا في هذه المحاضرة فسأتطرّق إلى مراحل بلوغ الاستقلاليّة ونيل ذروتها ليكون بمنزلة خروج بخلاصة لموضوع الاستقلاليّة. ونودّ في الليالي القادمة تناول مواضيع أخرى، ومنها موضوع لا يختلف بالطبع عن موضوع الاستقلاليّة، نحاول من خلاله أن نرى ما هي "أطروحة الدين الأساسيّة لتَنشئتنا على الاستقلاليّة؟" وسنؤجّل البدء بالكلام على هذه الأطروحة إلى المحاضرة التالية.
• ومن خلال المسألة التي أريد الكلام فيها في هذه الليلة ستغدو الأطروحات السابقة أكثر اتّساقًا بعض الشيء مع بعضها البعض وتكتمل أيضًا بطبيعة الحال، وهو ما سيجعلكم تضعون المواضيع التي طرحناها سلفًا في خانة "المراحل المتّبَعة لبلوغ الاستقلاليّة" وأهدافها وآثارها، ومن ثَمّ تستطيعون تنظيم أفكاركم في ما يتّصل بالمسار الذي ينتهجه المرء طلبًا للاستقلاليّة.

 

المرحلة الأولى: "التفكير"

• طلب الاستقلاليّة يبدأ من الفكر

• مسيرة الإنسان نحو الاستقلاليّة تبدأ من "الفكر"؛ أي من التفكير، وتحليل الأحوال والظروف الروحيّة والاجتماعيّة وما يجري في عالمنا هذا. إذن المرحلة الأولى من مراحل طلب الاستقلاليّة لا بدّ أن تبدأ من "التفكير".
• بماذا نفكّر؟ أسأل الله تعالى أن يجري هذا الكلام – إن كان صائبًا – في شرايين مناهجنا التربويّة والتعليميّة، وفي مساجدنا، وعلى منابرنا لكي لا نشهد كلّ هذا التنصّل من الدين، فمن القبيح جدًّا أن نشهد هذا الحجم من التنصّل من الدين في المجتمع. لا ريب أن الذنب أوّلًا ذنب مناهجنا في التربية والتعليم الدينيَّين وأسلوب الدعوة إلى الدين الذي يُنتهَج في الحوزة العلميّة وفي مختلف مؤسّسات النظام الإسلامي الثقافيّة والتعليميّة، بكلّ ما تشكوه من نقاط الضعف التي نسأل الله تعالى أن تزول، وقد تحدّثنا في المحاضرة الفائتة في هذا الموضوع.

• في ماذا نفكّر؟ أوّلًا: في أنّه كم أنا أنشُد الاستقلاليّة بالفطرة؟

• حسنٌ، من أين نبدأ إذا أردنا إزالة نقاط الضعف هذه؟ وفي أيّ الأشياء علينا أن نفكّر؟ أوّلًا: لنفكّر في أنّه: كم نحن ننشد الاستقلاليّة؟ الإنسان إن لم يفكّر فلن بتبادر إلى ذهنه، ولن يكتشف في نفسه، ولن يبلغ حالة من الوعي الذاتي من أنّه كَم الاستقلاليّة مهمّة عنده؟ فلا يرى نفسه إلّا وقد أمضى عمره كما تمضيه الخراف والأرقّاء، بل لن يرجع إلى نفسه مرّة واحدة ليقيّمها فيرى أنّه رقيقٌ يعيش حياة الأرقّاء، وأنّه بات يحيا كما تحيا الخراف!
• إذن التفكّر في أنّه أساسًا: "كم أنا أهوى الاستقلال بالفطرة، وكم هو مهمّ عندي؟" قبل أن نغذّي الطفل أو المراهق، أو الشخص عمومًا، بمعلومات من الخارج ونقول له: "احفظ هذه المعلومات"، ولو كانت معلومات عن الله عزّ وجلّ والنبيّ الأعظم(ص) والمعاد والكثير غيرها من الأمور الحسنة، فليُعمَل أوّلًا على إحياء روح المطالبة بالاستقلاليّة عنده لكي يستطيع قول: "لا إله"، فعبارة "لا إله" هي الجزء الأوّل من ذكر التوحيد خاصّتنا، وإنّ مَن لا يرغب في قول: "لا إله"، فإنّه سينفُر حتّى من اسم "الله" من عبارة: "إلّا الله" إذا قلتَها له.

• ثانيًا: في أنّه كيف تدعونا ألوان اللادين إلى الرِّقّ؟

• إذن في أيّ شيء نفكّر؟ نفكّر أوّلًا في أنّه: كم أنا أحبّ الاستقلاليّة، وكم أنا طالب لها حقًّا؟ أمّا الموضوع الثاني الذي علينا التفكير فيه فهو أنْ نلاحظ كيف تدعونا ألوان الترويج للّادين، وأشكال اللّادين وأصناف الإيديولوجيّات التي لا صلة لها بالدين الخالص والأصيل – كيف تدعونا إلى مختلف أشكال الرِّقّ؟ ومَن ذا الذي باستطاعته النجاة من الغزو الثقافي الغربي والتغرّب الفكري؟ إنّه الشخص الذي بمقدوره أن يفسّر المذاهب الإلحاديّة الغربيّة بأنّها: "تدعو إلى الرقّ المعاصر".
• أزيلوا سوء الفهم هذا الذي يقع فيه المثقّفون المتغرّبون وقولوا لهم: "لقد عُمِل على استرقاقكم بشعارات من مثل الحرّيّة، وحقوق الإنسان، والديمقراطيّة، والليبراليّة المعمول بها والمجرَّبة في الغرب، وإنّكم تدعوننا اليوم، بالشعارات هذه نفسها، إلى الرِقّ، إلى رِقٍّ معاصر بالطبع"، إنّهم يدعوننا إلى الرقّ، لا إلى اللادين، إنّهم لا يدعوننا إلى مناهضة الثورة الإسلاميّة وعدم الثوريّة، بل إلى الاسترقاق!
• أحد السياسيّين الصحافيّين نطق بكلام سخيف وهو: "يقول السيّد القائد: "لا بدّ للحكومة القادمة أن تكون ثوريّة"، فماذا يصنع غيرُ الثوريّين إذن؟" لكن ما معنى الثورة أصلًا؟ مأساتنا هي أّن ثورتَنا مضى عليها أربعون عامًا ولم تستطع أجهزتنا التعليميّة والدعويّة إلى الآن ترجمة معنى الثورة!" الثورة تعني: "أنّني متمسّك باستقلاليّتي!" فأوّل شعار للثورة هو الاستقلال، وكما ذكر سماحة الإمام القائد [ما مضمونه]: يحاول البعض عن سهو أو غفلة، ويحاول آخرون عن دناءة، أن يدفعوا بموضوع الاستقلاليّة إلى غياهب النسيان (في خطاب لسماحته في حشد من أهالي قمّ المقدّسة في 5/10/2000).

• ثالثًا: في أنّ "الدين منهاج لتحرّر الإنسان"

• الموضوع الثالث الذي ينبغي التفكير فيه هو أنّ الدين منهاج لتحرير الإنسان، وكلّ مَن يحمل فَهْمًا آخر عن الدين فهو مخطئ. وإنّ ما يقال لكم "من أنّ الدين صَمَّم أوامرَه وتعاليمه بغية إيصال الإنسان إلى الكمال، إلى السعادة، إلى الفلاح، إلى قرب الله عزّ وجلّ، ...إلخ" يُترجَم قاطبةً، وبلا استثناء، بأنّ الدين يريدنا مستقلّين وصالحين، ولأجل هذا المقصود تحديدًا رَسَم أهدافَه.
• إنّ الدين يسوقنا نحو الاستقلاليّة، بل إنّه لا سبيل أساسًا لغير المستقلّين إلى الله تعالى، فالله جلّ شأنه هو نفسه مستقلّ، وفريد من نوعه، وهو يرفض المخلوق المتطفّل التَّبَع المتأثّر بالغير، بل يرفض أن يؤثّر هو عليك بهذه الطريقة؛ لاحظ أنه أخفى قيامته أيضًا، ولهذا يتوجّب عليك التفكير!

• الغاية من كونِ القرآن الكريم لا يُفهَم من دون تفكير هي استقلاليّة الإنسان

• لماذا يقول الله عزّ وجلّ في أوّل كتابه العزيز: «الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب» (سورة البقرة/ الآية3)؟ "الغيب" هذا هو الاسم الحرَكيّ لاستقلاليّتك! قد يسأل سائل: "دُلَّني في أيّ موضع ذُكرَت الاستقلاليّة في القرآن الكريم لتؤكّد أنت عليها كلّ هذا التأكيد؟" الجواب: "لم تُذكر في أيّ موضع! أسماء الأئمّة الإثني عشر(ع) أيضًا لم تُذكر في أيّما موضع في القرآن الكريم، ولا اسم مولاتنا الزهراء(س)، أساسًا من قال إنّ عليك أن تقرأ القرآن الكريم من دون تفكّر وبلا تدبّر؟!"
• بل إنّ استحالة عدم إمكانيّة فهم القرآن الكريم من دون تفكّر هو بحدّ ذاته مؤشّر على استقلاليّتك، وأنّه يُقام لك وزن. الإنسان كائن مفكّر، فلنفكّر في قوله تعالى: «الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب» (سورة البقرة/ الآية3).. إلهي، لماذا لا تسير بنا بمركَب العلم؟ لماذا علينا الإيمان بالغيب؟ [يجيب:] لقد أخفيتُ خلف حجاب الغيب أمورًا مهمّة كثيرة؛ منها مثلًا: ردّي على سؤالك، كلامي معك لأجل هدايتك، عقابي لك، ثوابي لك، صلاح الصالحين الذي يمكن أن يشكّل درسًا لك، لقد أخفيتُ الكثير منها وراء ستار الغيب، حتّى إذا صلُحتَ تكون أنتَ نفسَك مَن صلُحَ، وإلّا فأين نقيس قيمة استقلاليّتك؟
• ليس في قاموس الله تعالى شيءٌ مثل عبادة شابٍّ على أعتابه عزّ وجلّ، فإنّ بلوغ الشابّ مرحلة الاستقلاليّة هو ممّا يستوجب مباهاة الله تعالى أمام ملائكته، فيقول لهم: انظروا، لاحظوا عبدي هذا... «إِنَّ اللهَ تَعالَى يُباهي بِالشّابِّ العابِدِ المَلائِكَةَ، يَقولُ: انظُروا إِلى عَبدي! تَرَكَ شَهوَتَهُ مِنْ أَجْلي» (كنز العمال/ ج١٥/ ص٧٧٦).

• الدين كلّه منهاج للتحرّر

• الدين كلّه منهاج للتحرّر؛ تَحرُّرك من أغلال ميولك التافهة، التحرّر من أشكال الإثابة والمعاقبة، التحرّر من ألوان السخرية، التحرّر من الإهانات، التحرّر من المنافع الضحلة. حتّى لو أردتَ أن تكون تبعًا لصاحب الزمان(عج) فلا تظنّ أنّه سيهتمّ بك في كلّ مرّة، لإنّه باهتمامه بك سيجعلك أسير نفسِك، فتفقد استقلاليّتك؛ بالضبط كما طلب الإمام الحسين(ع) ليلة العاشر من المحرّم إلى أصحابه أن: "ارحلوا"، إذ كان يريدهم مستقلّين، يتّخذون قراراتهم بأنفسهم.
• إذن، عليك أوّلًا أن تفّكر في أنّه: كم أنت طالب استقلاليّة؟ وفي أنّ الحياة من دون استقلاليّة هي أسوأ من الموت، هذه أُولى الدروس التي أراد الإمام الحسين(ع) تعليمها إيّانا، تفكَّر في أنّ الآخرين يدعونك إلى مختلف أشكال الرقّ، وألوان الرقّ المعاصر الذي ترى؛ كنسخة الاستقلاليّة الزائفة هذه التي أطلقوا عليها الحرّيّة، وحقوق الإنسان، والديمقراطيّة وأمثال هذه المُسمَّيات التي لم تُثمِر شيئًا في أيّ بقعة من العالم. والتفكير في أولئك الذين يستعبدونك استعبادًا فكريًّا وغيره من أشكال الاستعباد. التفكير في أنّ الدين منهاج للتحرّر.
• فأوّل مرحلة في طريق طلب الاستقلاليّة هي "التفكير"، ولقد حدّدنا للتفكير ثلاثة مواضيع أساسيّة.

 

المرحلة الثانية: قَطع التعلّقات المُوجِبة للتبعيّة

• المرحلة الثانية هي قَطع التعلّقات؛ فإنّك إذ علمتَ الآن أنّ الدين منهاج للاستقلاليّة فَاسْعَ – بالدين أو من دونه – إلى قطع التعلّقات التي تجعلك تبعًا، وإزالة المخاوف التي تُورِثك التبعيّة وتجرّدك من استقلاليّتك، اشتغل على ميولك وقل في ذات نفسك: لا ينبغي أن أحبّ شيئًا يكبّلني ويجعلني له تبعًا.
• في المرحلة الثانية تبدأ بالاشتغال على قلبك. وكيف يكون الاشتغال على القلب؟ هناك طريقة وتمرين أساسيَّين نبدأ الكلام عليه من الليلة القادمة وسنرى أنّ جميع هذه الإجراءات متضمَّنَة في هذه الطريقة. المرحلة الثانية تتمثّل في قطع تعلّقاتك الباطنيّة، فإنّ كلّ رغبة وتعلّق هو جميل، وإنّ في تلبيته لذّةٌ.. لا بأس، تمتّعْ به، لكن ليكن في بالك أنْ تحذر من أن يأسِرك.

• الحياة، في الواقع، هي اجتياز مراحل من أجل الخلاص

• دعوني أخبركم أيّها الشباب أنّ الغاية من الزواج، بما فيه من لذّة عاطفيّة وجنسيّة، ليس هي أن تخوض هذه التجربة، ومن ثم تكبّلكَ اللذّات العاطفيّة والجنسيّة للزواج، بل هو لكي تدرك أنّه ليس فيه من جديد، فتتحرّر من هذه الأغلال. لكنّ هذا الزواج نفسه يتحوّل لدى البعض إلى أزمة! والحال أنّه كان عليك أن تصل بالزواج إلى حيث تقول لنفسك: "هذا هو كلّ ما في الزواج! والآن عليك أن تكسّر عنك أغلاله، ولا تشغل فكرك به".
• الحياة، في الواقع، هي عبورُ مراحل من أجل الخلاص! وإن شئت الخلاص بشكل طبيعي فإنّ جزءًا من هذا الخلاص سيتحقّق في أيّام الشيخوخة فقط، حيث لا فائدة آنذاك، فالمهمّ هو أن تتخلّص من قيودك وتتحرّر بشكل إرادي. بالطبع أنا لا أقول: "لا تتمتّع بهذه اللذّات، ولا تَسعَ وراء هذه المنافع"، بل أقول: "عش حياتك بطريقة يقول معها الله تعالى لملائكته: ما من نعمة نالَها عبدي هذا إلّا وكسَّر عن نفسه أغلالها، فأَنعِموا عليه بالمزيد". فإنّ الله عزّ وجلّ، كما جاء في بعض الأخبار، يؤدّب بعض عباده بالنعم؛ فقد روي عن أمير المؤمنين(ع) قوله: «وَالبَهائِمَ لا تَتَّعِظُ إِلّا بِالضَّرب» (نهج البلاغة/ الكتاب31)، أمّا الإنسان الشريف فيتأدّب بالنعمة، ويبلغ حدّ التحرّر.
• ليسوا قِلّة هم الفتية المجاهدون الذين إذا قلّبتَ مذكّراتهم وفتّشتَ في تفاصيل حياتهم وجدتهم قد عشقوا الشهادة بعد أن تزوّجوا! لماذا؟ لأنّه يقول في ذات نفسه: "لقد اجتزتُ هذه المرحلة". أحد هؤلاء الشبّان، الذي استشهد دفاعًا عن المقدّسات (في سوريا)، كانت كلّ رغبته هي أن يتزوّج وينجب بنتًا فيسمّيها كوثرَ، وهي رغبة جيّدة كانت تحدوه، لكنّه كان أسيرَها! تزوّجَ.. أنجبَ بنتًا.. كان يتردّد على سوريا.. وكلّما استقرّ به المقام هناك كان شغله الشاغل صور طفلته في جوّاله.
• وفي سفرته الأخيرة إلى سوريا قال له رفاقه في المطار: "يا فلان، ما أخبار كوثر؟" إذ كانوا يعلمون كم هو أسير كوثره، وما أسرع اشتياقه إليها! "ألا تودّ أن تتّصل بها وتكلّمها؟" وفي سفرته الأخيرة تلك تحديدًا قال لرفاقه: "انتهى الأمر، لقد اجتزتُ كوثرَ، تمكّنتُ من تخطّيها، استمتعتُ بوجودها، ثمّ انتهتْ بالنسبة إليَّ!!" ورحل، فاستشهد! هذه هي الحياة، مسيرة نحو الخلاص!
• الله جلّ وعلا لا يجتثّ من الأصل، بل يقول لك: ماذا تحبّ؟ فإمّا أن أعطيك ما تحبّ لتتحرّر، أو آخذه منك وتتحرّر، أو لا أعطيك إيّاه وتتحرّر، والمراد من "تتحرّر" هو أن تقطع تعلّق قلبك به. وماذا يعني تقطع تعلّق قلبك به؟ يعني أن لا تتعلّق به، أن تكون مستقلًّا وتتحرّر منه. لا أن لا تحبّه، حِبَّه لكن كن مستقلًّا.
• المرحلة الثانية إذن هي التحرّر على مستوى القلب. المرحلة الأولى كانت التفكير في التحرّر وتلك الاستقلاليّة، أمّا الثانية فهي أن تصبح مستقلًّا في أعماقك. وماذا يسمّي الدين هذه الاستقلاليّة في الأعماق؟ يسمّيها "الإخلاص".

 

المرحلة الثالثة: تقوية العزيمة والإرادة

• وما هي المرحلة الثالثة؟ وماذا نصنع فيها؟ عليك في المرحلة الثالثة أن تَقوَى على مستوى العزيمة والإرادة.
• الإنسان الطالب للاستقلاليّة هو إنسان ذو عزيمة وإرادة. تمرَّن على تقوية إرادتك. ليس أن تواظب على حبّ الصالحات وإدراكها ثمّ تكون ضعيفًا من ناحية الإرادة. انظر إلى الشأن الذي يراه سماحة الإمام الخميني(ره) وأستاذه الشاه آبادي(ره) للعزيمة والإرادة، لا بدّ من التمرُّن عليهما. ودعوني أقول شيئًا بخصوص التمرُّن على العزيمة والإرادة: ببساطة: "ابدأ من القليل لكن داوم عليه"؛ كأن تصلّي إحدى صلواتك اليوميّة في وقتها، على أن تواظب على ذلك.

• العزيمة والإرادة يأتيان من خلال البرامج المتواصلة

• الدين كلّه منهاج لإيصال الإنسان إلى الاستقلاليّة، وإنّ أهمّ مناهجه هي الصلاة نفسها. ولقد قال عظماؤنا: "إذا أردتَ بلوغ مقام رفيع فعليك بالصلاة في أوّل وقتها، ثمّ واظب على ذلك". والصلاة في أوّل وقتها مسألة تحتاج إلى استقلاليّة روحيّة، استقلاليّة من الكثير من الرغبات، ومن معظم العوامل الخارجيّة، ومن أغلب المصالح! كن مستقلًّا.. ما أجمل هذه الاستقلاليّة!
• وإنّ لهذه الألوان من قطع التعلّقات وتحرير القلب منها سعيًا إلى استقلاله مجموعةً من التمارين. فعلى صعيد العزيمة والإرادة مثلًا ابدأ بمحاولة إظهار إرادتك؛ لاحظ أنّك قد تحبّ التحرُّر والاستقلاليّة، وربّما يكون التحرّر قد احتلّ مكانه الأصيل في فكرك، وقد تكره الرقّ وتنفر منه، وتعرفه حقّ المعرفة، لكنّ هذا غير كافٍ. ماذا عليك أن تصنع إذن؟ يتعيّن عليك أن تبلغ ذروة الاستقلاليّة من الناحية العمليّة. فإنْ تريد اقتحام ميدان العمل فستجد هاهنا شيئًا اسمه الإرادة، اسمه العزيمة، ولا بدّ من تقويته.
• العزيمة والإرادة يأتيان من خلال البرامج المتواصلة، البرامج المتواصلة التي لا يشجّعك أحدٌ عليها، ولا يعاقبك أحد إذا لم تنجزها.

• الدراسة من أجل الامتحان لا تزوّد أحدًا بالإرادة، لا بل تُضعف إرادته

• البرامج المتواصلة المتّبَعة عادة في المدارس والورش ودوائر الدولة هي أن يضغط الآخرون علينا للتحكّم بنا.. تَعسًا لهذه البرامج! فهي لا تجعل من امرئٍ إنسانًا، لا بل تُخرِجه من حضيرة إنسانيّته. فالدراسة بدافع اجتياز الامتحان لا تزوّد أحدًا بالعزيمة والإرادة، لا بل تضعف إرادته، فأنْ يُرغمك شخص آخر على عمل ما فهذا يعني فناءك. إنّهم يتمرّسون على محو استقلاليّتك، أي يمرّسونك ويربّونك على ذلك. أنا لا أدري ما الداعي للاختبار في المدرسة؟!
• لماذا تريد إجبار الطالب على الدراسة بأيّ ثمن؟ لماذا يجب أن تكون المدرسة مكانًا للاختبار في حين أنّ علم النفس يرفض الاختبار؟ هناك دراسات أُجريَتْ تُثبت أنّ الامتحان يبيد الذاكرة، ويحطّم الإبداع، ولقد تلوتُ هنا شخصيًّا، قبل بضع سنين، تقارير علماء النفس في هذا الخصوص. أَوَهل المدرسة مكانٌ لاختبار الطلّاب؟! يا إلهي، متى تنفذ ثورتنا الإسلاميّة هذه إلى نظام التربية والتعليم أيضًا؟
• أحد مسؤولي التربية والتعليم كان قد صرّح قبل بضع سنين أنّه: لا مانع لدينا من إلغاء الامتحانات، غير أنّ أولياء الأمور معارضون ويصرّون على إخضاع أولادهم للاختبار! وهذا الكلام يعني: "فليواصل ولدي التحصيل الدراسي حتّى وإن تربَّى تربيةَ الخراف والعبيد!" أيّها الوالدان المحترمان، لِمَ هذا المنطق منكما بالذات؟! أهذا عوضًا عن مطالَبتكما المعلّم: "لا تُربِّ ولدي كما تربّي الخراف والأرقّاء، بل ولا رقيقًا ذكيًّا!" كَم هؤلاء الأرقّاء الأذكياء لصالح الاستكبار العالمي!
• انظروا كم في عالم اليوم من ذوي العلم هم مطايا للطواغيت كالحمير! إنّه تعبير قرآني حين يقول تعالى: «كَمَثَلِ اَلحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا» (سورة الجمعة/ الآية5)؛ كالحمار الذي حُمِّل كُتُبًا، وهو تعبير خاصّ بالعلماء، ويعني: العلماء الحمير! هؤلاء الحمير الذين يحملون العلم في بريطانيا وأمريكا يرون بأمّ أعينهم كيف يقترف حُكّامهم الجرائم، ويؤسّسون داعش، ويرتكبون المجازر، ومع ذلك يعملون لهم مطايًا، وعبيدًا، ويخدمونهم.

• لا تتأتّى العزيمة والإرادة بالضغط من الخارج

• اِعملْ على تقوية عزيمتك وإرادتك، فالعزيمة والإرادة لا تتأتّيان بالضغط من الخارج، ولا بالأعمال التي تقوم بها تحت وطأة الضغوط الخارجيّة. حقًّا لا أدري هل من الممكن أن تجري الأمور بهذا المنوال، وهو أن يقال: "نحن لا نُعْلِمُكم بالوقت، ولا نسجّل الغياب، لكن عليكم أنتم الحضور في الساعة الثامنة، ولن نعاقب من لا يأتي في الساعة الثامنة، ولن نثيب من يأتي في هذه الساعة". فيتكاسل الطلّاب واحدًا واحدًا، ينام يومًا ويستيقظ يومًا ولا يستيقط آخر، فكأنّ كلّ يوم هو يوم عطلة، لا فرق، وكأنّ المنهج كلّه منهج لاصَفّي. فتقول الأمّ لولدها مستغربةً: "ولَدي، في النهاية ماذا ستصنع؟ أتذهب إلى المدرسة أم لا تذهب؟" بالطبع أنا لا أقول: لينفَّذ هذا المنهاج منذ الأوّل الابتدائي، لكن لينفَّذ - على أقلّ تقدير - منذ الأوّل الثانوي.
• هذا المقترح الذي أَقترِحه (لساعة الحضور في الصف) ليس للأوّل الابتدائي، بل للثانويّة، أمّا ما ذكَرتُه سلفًا من إلغاء الامتحانات فهو للابتدائيّة، إذ لا بدّ أن يربَّى تلميذ الابتدائيّة على الأدب. سألَني أحد الإخوة سؤالًا علميًّا جيّدًا وهو أنّه: "كيف يمكن الجمع بين الاستقلاليّة التي تقول بها وبين التربية في السبعة الثانية من العمر حيث يجب أن يتعلّم الطفلُ الأدبَ والطاعة؟" الجواب: هكذا يمكن الجمع بينهما؛ وهو أنّك تربّيه في السبعة الثانية بالأدب والأوامر لكن لا تثيبه أو تعاقبه بشكل آنيّ وعينيّ، وحين تقلّ الإثابة والمعاقبة ولا تكون آنيّة عينيّة ينشأ الطفل مستقلًّا، وإنّ الدعوة لإلغاء الامتحانات هي لهذا الغرض تحديدًا.

• كيف تنشأ العزيمة؟ بالبرنامج الذي تُعدّه أنت ولا يرغمك عليه أحد

• ولقد شرعتْ بعض المدارس بطهران بتبنّي هذا النهج، حيث يصرّح القائمون عليها بأنّه: "هذا هو قانون مدرستنا.."، نقول هذا وحسب، فيقبله تلاميذ الصفّ الأوّل الابتدائي، لأنّهم يتقبّلون النَظْم ذاتًا. فلماذا كلّ هذه الإثابة والمعاقبة؟ لا تُثيبوا وتعاقبوا كثيرًا، خفّضوا من هذا النهج، دع الطفل يكبر مستقلًّا، فهذا أفضل، فهو إنْ كبُر مستقلًّا سيصبح عالمًا بأقلّ قدر من المطالعة، أمّا إذا أنشأته غير مستقلّ فسيطير من رأسه كلّ ما تعلّمه. ما هذه "الشهادات"؟! لقد دمّرتْ هذه الشهادات التافهة المواهب. في عالم اليوم بدؤوا يَركُنون الشهادات جانبًا ويتجاوزونها، فصاحب العمل هو الذي يقيّم موهبة الشخص ويحدّد راتبه على هذا الأساس.
• كيف تُستحصَل العزيمة؟ تُستحصل بالمنهج الذي تَعدّه أنت لنفسك، ولا يُرغِمك عليه أحد. هكذا تنال العزيمة. فالمرحلة الثالثة إذن هي تقوية العزيمة والإرادة.

 

المرحلة الرابعة: ضبط السلوك

• المرحلة الأولى كانت التفكير، والثانية التحرّر من التعلّقات، والثالثة العزيمة والإرادة وتقويتهما. أمّا المرحلة الرابعة فهي: ما السلوكيّات التي عليك تبنّيها؟ يجب أن تدقّق النظر في نمط حياتك، فبعض أنماط الحياة مُبيدة للاستقلاليّة؛ فالإكثار من الإصغاء إلى الموسيقى مثلًا يُبيد الاستقلاليّة، وكذا كثرة الأكل.. أمر مثير للغاية.. الصيام أكبر مانح للاستقلاليّة، بل هو عظيم في هذا الجانب، أيّ روعة!
• الدين منهجه تربية شخصيّة الإنسان. البعض يقول: "هذه أمور دينيّة!" كلّا، بل هي أمور إنسانيّة. ما معنى الدين أصلًا؟ أنا لا أفهم ما هو مرادك من الدين؟  على حدّ قول الإمام الراحل(ره): "البعض يفهم الدين أنّه أشبه بالديانة المسيحيّة في القرون الوسطى!" أخُصّ بالذكر بعض أفراد مجتمعنا الذين يفصلون الدين عن باقي الشؤون الحياتيّة والإنسانيّة قائلين: هذه قضيّة عَقَديّة، والعقيدة أمر شخصي، فالدين إذن هو أمر شخصي!
• نقول لأمثال هؤلاء: قولوا لي في أيّ خانة تضعون قوانين المرور؟ هل هي عقيدة شخصيّة؟ كأنْ نقول، على سبيل المثال: عقيدتي الشخصيّة هي أن أتجاوز الضوء الأحمر؟ لا أحد يقول هذا حتّى السفهاء. غير أنّ البعض لا يرى للدين حتّى ما يراه لقوانين المرور من قيمة إنسانيّة واجتماعيّة! فما من جاهل على الإطلاق يرى أنّ قانون المرور قضيّة شخصيّة، لكن هناك بعض السفهاء الضَحلِي العقول لا يرون الدين إنسانيًّا واجتماعيًّا حتّى بمقدار قانون المرور. إلى من يشكو المرء هذا البَثّ والألم؟! لماذا قُدِّم الدين للناس بهذه الصورة؟!

• "ضبط السلوك" هو أن تنبذ كلّ منهاج عملي ونمط حياة يسلبك استقلاليّتك/ "ترك العادة" هو أحد المناهج المهمّة لضبط السلوك

• المرحلة الرابعة هي ضبط السلوك، وهي أن تترك كلّ برنامج عمليّ وكلّ نمط حياة يسلبك استقلاليّتك. قلّل تعوّدك على الأمور! فمن أكثر ما يوصَى به في الروايات مثلًا هو أنّ القدرة التي عليك اكتسابها هي ترك العادة؛ «غالِبُوا أَنفُسَكُمْ عَلى تَركِ العاداتِ تَغْلِبوها» (عيون الحكم والمواعظ/ ص348).
• انظر على ماذا أنت متعوّد، واتركه.. هذا العمل هو في قمّة الروعة. وغالبًا ما يكون الشيء المعتاد عليه أنت ليس في غاية الأهمّيّة (بمعنى أنّه جيّد أم سيّئ..)، بل إنّ ترك العادة هذا نفسه هو أحد المناهج المهمّة، وعليك أن تستطيع إنجازه. وكثيرًا ما تكون غاية الابتلاءات والامتحانات الإلهيّة ترك العادة، أي سلبَك عادةً ما، بل إنّه ليتعيّن عليك أحيانًا أن تترك العادات الحسنة! لماذا؟ من أجل أن تبلغ درجة عالية من القوة والاستقلاليّة.
• إنّ نمط الحياة الذي يزوّدك به الغربيّون يجرّدك من استقلاليّتك، وذلك عن طريق الإيحاء لك بعادات تزيد تعلّقك بها، أي إنّهم يفسدونك على مستوى العمل، وهو إمّا أن يكون عملًا فرديًّا أو اجتماعيًّا، أو حتّى أعمالًا وسلوكيّات تحمل طابعًا فسلجيًّا تُنشئ فيك تعلُّقًا وتبعيّة عن طريق جسمك، وتُضْعِفك في واقع الأمر.
• يقول المرحوم دولابي: "الموسيقى المحرّمة تُوهِن الشاب"، ويقول الإمام الخميني(ره) قريبًا من هذا المعنى أيضًا.. أترى كم الأمر لافت؟! يقول: "يقول أستاذنا المعظم [المرحوم آية الله الشاه آبادي] دام ظلّه: "استماع الأغاني هو أكثر ما يسلب الإنسانَ العزيمة والإرادة" (شرح چهل حديث (شرح الأربعين حديثًا)/ ص8)، "من جملة الأمور التي تخدّر عقول الشباب هي الموسيقى" (صحيفه امام (صحيفة الإمام/ النسخة الفارسيّة)/ ج9/ ص200). وما هذا الكلام بكلام ديني محض، فإنّ مَن درس شيئًا من علم النفس وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) باستطاعته معرفة أسباب ذلك.

• ما العمل الذي نقوم به لنبلغ حدّ التحرّر؟/ كثيرًا ما ينبغي أن نختلف فيما بيننا في البرامج ونمط الحياة

• ما العمل الذي نقوم به لنبلغ حدّ التحرّر؟ النقطة المهمّة التي عليَّ التنبيه عليها هنا هي أنّه كثيرًا ما ينبغي أن يختلف برنامج حياتي، ونمط الحياة الذي أتبنّاه في بعض التفاصيل عن نمط حياتك، ونمط حياة صديقك هذا، وصديقك ذاك، فإنّ على كلّ واحد منّا أن يعرف مزاجه.
• ودعوني أصارحكم بأنّ أكثر العلماء في أغلب الأحيان لا يستطيعون أن يحدّدوا لكم، بالتفاصيل، ما يجب أن تفعلوه! أي لا بدّ من مراعاة تناسب تفاصيل نمط الحياة هذا مع نفسيّة كلّ شخص وأخلاقه. لكن من أين لنا معرفة ذلك؟ هذا ما ينبغي عليك أنت أن تعرفه، إنّه ما لا يُستخرج من الكتب، وإنّ عبارة "ينبغي عليك أنت أن تعرف" هي إحدى الجوانب التي يسعى إليها الدين، فالدين لا يوصلك إلى ما يريد إيصالك إليه بـ"التعليم" دائمًا، وبعبارة أخرى: لا يعالج الدين مشاكلك دائمًا بالعلم، بل يحلّ بعضها بـ"الحكمة". وما هي الحكمة؟ هي أن "تعرف أنت بنفسك".
• هل اطّلعتَ على سيرة حياة الشيخ بهجت(ره)؟ ليس بالضرورة أن تعيش أنت مثله. هل سمعتَ عن حياة الشهيد القائد قاسم سليماني؟ ليس بالضرورة أن تعيش أنت كما عاش هو، بل قد يكون عليك أن تعيش حياةً مختلفة تمامًا! وكذا فإنّك حين تسمع عن سيرة الشيخ بهجت، وسيرة عارف آخر مثل السيّد بهاء الديني تجد أن نمط حياتيهما مختلف، فهذا وجد نمط الحياة الخاص به، وذاك وجد النمط الخاص به أيضًا.
• انظر أيّ دين لدينا؟.. لاحظ ما أروعه! كثيرون يعتقدون "أنّك أتيت إلى هذه المجالس لتسمع ما يقال، ثم تذهب فتنفّذه بحذافيره!" وهذا غير صحيح، بل إنّك تحضر هذا المجلس لتعرف أنت، إذا غادرته، ما الذي عليك صنعه، لأنّ المجلس هو في حبّ أهل البيت(ع)، ولقد قال رسول الله(ص) في ما روي عنه: «مَنْ أَرَادَ الْحِكْمَةَ فَلْيُحِبَّ أَهْلَ بَيْتِي» (مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين والأئمة(ع)/ ص84)، وقال(ص): «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَحَقَّقَ حُبَّنَا فِي قَلْبِهِ جَرَى يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ عَلَى لِسَانِه» (المحاسن/ ج1/ ص61).
• ولو أنّك قصدتَ رسولَ الله(ص) أيضًا لكان من واجبه(ص) أن يعلّمك الكتاب والحكمة معًا: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة» (سورة الجمعة/ الآية2)؛ والكتاب يعني أن تتعلّم العلم، والحكمة تعني أن تفهم أنت. اذهب وانظر ما القرار الذي تصل إليه أنت؟ انظر أنت ما الذي عليك صنعه؟ اذهب وفكّر أنت. فلا بدّ في بعض التفاصيل أن تستنتج أنت ما يناسبك أنت، وعليه يجب أن تعرف نفسك.

 

المرحلة الخامسة: الحب

• ما الصلة بين الحب والاستقلاليّة؟

• المرحلة الرابعة  إذن هي أن تضبط سلوكك ونمط حياتك بما لا يجعلك تعِبًا متعلّقًا. فإن اجتزتَ المراحل الأربعة الآنفة الذكر فستعود إيضًا إلى مرحلة "القلب"، إذ ستترك المراحل الأربعة تلك أثرًا على قلبك فتوصله إلى "الحب"، إلى ذلك التوق الجميل المانح للدفء، المُلهِب، المثير إلى أقصى حد، إنّك ستصل معه إلى الحب السامي، إلى مرحلة: «أَشَدُّ حُبًّا لله» (سورة البقرة/ الآية165)، ستكون مؤهَّلا للعشق.
• وما الصلة بين الحب والاستقلاليّة؟ ألم تسمع قولهم: إنّ المحب لا يعود يرى شيئًا غير حبيبه؟ ألم تسمع قولهم: إنّ المحب محبّ حتى لو ضربه حبيبُه. يقول الشاعر (الإيراني): "لو هَمّ بقتلي بالسيف لن أمنعه/ ولو رماني بالسهم فأنا المُمتَن له" [شعر]، وإنّ أدبنا العرفاني مشحون بهذه المضامين. أو يخاطب محبوبه قائلًا: "وَلِّ وجهَكَ شَطرَ ما تريد/ فإنّ الورد لا وجهَ له ولا قفا" [شعر]؛ أي إنّي – بمعنًى من المعاني – لم أعد متعلّقًا بالمحبوب أيضًا.

• الحبّ هو الاستقلاليّة عن الغير/ ثمّة ضرب من الاستقلاليّة حتى في تعلّقك بالمحبوب

• إذن، بعد المراحل الأربعة المذكورة، تصل للتوّ إلى مرحلة الحب، ومرحلة الحب هذه، وهي مرحلة: "أنا أموت فيك، أنا أحترق من أجلك، لن تخمد ناري هذه أبدًا، ...إلخ"، تعني بحد ذاتها استقلاليّتك عن الغير، بل هناك ضرب من الاستقلاليّة حتى في تعلّقك بالمحبوب؛ أي إنّ نمطًا من الاستقلالية يشاهَد في علاقة الحب هذه نفسها، إنّك ستكون محبًّا مستقلا! ولهذا فإنّ المحبّ المستقلّ "لربّ العالمين" سيتجرّد من الكثير من مواصفات المحبّ الأرضيّ العاجز؛ فالمحبّ الأرضيّ هو كائن غير متّزِن. لكن ما الذي لا يجعل محبّ الله تعالى غير متّزن؟ لماذا تراه يبلغ ذروة الازدهار؟
• حين تبلغ مرحلة الاستقلاليّة على مستوى القلب تبدأ بالحبّ. وماذا يصنع هذا الخلوص الذي ينشأ في القلب نتيجة التحرّر؟ لقد ذكرنا في المرحلة السابقة أن "تحرّرًا" ما يحصل في الميول، فأنت الآن تمرّ بمرحلة قطع تعلّقاتك، إنّك تحرّر قلبَك من التعلّقات الحقيرة التي تؤدّي إلى التبعيّة، وفي هذه المرحلة، حين تترك تلك التعلّقات وتعكف على تنظيم عزيمتك وإرادتك ونمط حياتك، تصل إلى حيث يكون قلبك مستعدًّا للحب.
• عن رسول الله(ص) أنّه قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ اللهِ لا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبٍ أَبَدًا» (مجموعة ورام/ ج2/ ص122)؛ فحين يكون ثمّة مثقال ذرّة من حب الدنيا في القلب، لا يدخل فيه مثقال ذرّة من حبّ الله تعالى. لا بدّ أن ننظر إنّ كنا الآن في مرحلة ترك التعلّق بالغير، أم مرحلة التكامل في حبّ الله عزّ وجلّ؟ ولقد كان هذا الأمر جليًّا بالكامل في مجاهدي الدفاع المقدّس؛ فحين تنتهي مرحلة تبدأ المرحلة التي تليها؛ بالضبط كالصاروخ ذي المرحلتين؛ إذ كان من الواضح جدًّا أنّ الشخص، في مدّة من الزمن، يمرّ بمرحلة "التحرّر"، لكنّ سيره وسلوكه، بعد نقطة معيّنة، يُستأنَف بطاقة ومحرّك جديدَين وبسرعة أعلى، وهي مرحلة الصعود في الحب، بل إنّه عالَم آخر تمامًا، فهو يتقدّم فيه على نحو موصول، ثمّ أيّ نحيب وأيّ لوعة ينتابانه فيه!
• ألا إنّك أصبحت عاشقًا، ولقد أدرتَ ظهرك لكلّ شيء، فلماذا كلّ هذه الدموع واللوعة؟ يجيب: "محنة القرب أشد من محنة البعد/ إنّ كبدي يتقطع من محنة القرب" [شعر]؛ فحين كنتُ بعيدًا كانت لديّ محنة، وكنت أنتحب في صلاة الليل، لكنّها كانت محبّة البعد، أمّا الآن وقد تقرّبتُ فقد نشأت لديّ محنة جديدة، تفوق سابقتها. حسنٌ، هذه هي المرحلة الخامسة من الاستقلاليّة.

 

المرحلة السادسة: الوصول إلى مقام الحكمة

• فما هي المرحلة التالية، أي المرحلة السادسة، من الاستقلاليّة؟ هي أن تصل بالفكر إلى مقام الحكمة وتبدأ في إنتاج العلم، وهنا ستخرج من دائرة التبعيّة وتتّجه نحو الإنتاج الذاتي. وماذا عساي أقول في الحكمة؟ عن رسول الله(ص) أنّه قال: «كادَ الحَكيمُ أَنْ يَكونَ نَبِيًّا» (كنز العمال/ ج16/ ص117).
• على أنّنا محتاجون للحكمة منذ البداية، لكن المراد من هذه المرحلة السادسة هو أنّه سيقال لك "حكيم"! وهنا سيستمتع الله تعالى بأنّك صرتَ تُدرك بفكرك ما لم يقُله أحدٌ لك، وتقول أمورًا لم يخبرك بها أحد، ولم تقرأها في كتاب ما. وتذكر الروايات أنّ الحكمة تنشأ من إخلاص القلب؛ «ما أَخلَصَ عَبدٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ أَربَعينَ صَباحًا إِلّا جَرَتْ يَنابيعُ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلى لِسانِه» (عيون أخبر الرضا/ ج2/ ص69).

 

المرحلة السابعة: العمل المؤثّر في العالم

• طيّب، دعونا نتقدّم خطوة أخرى. إلى أين أصل بعد الحكمة؟ بعد الحكمة في مرحلة الفكر، ستدخُل مرحلة العمل، العمل المؤثّر في العالَم، فتصبح صاحب أنفاس طاهرة مؤثّرة. فالشهيد القائد سليماني كان ذا أثر في العالم؛ كانت حركته، وإرادته، ونظرته، وكلامه مؤثّرة في العالم! والإمام الخميني(ره)، الذي كان أستاذه، كان مؤثّرًا أيضًا. ينقل أحد العلماء: في إحدى السنين زرتُ آية الله العظمى بهجت(ره) بعد مسيرات الثاني والعشرين من بهمن (11 شباط). فسألني: ما الأخبار؟ فقلت: مسيرات الثاني والعشرين من بهمن يوم أمس كانت مكتظّة جدًّا. فقال سماحة الشيخ بهجت(ره): "هذا كلّه أثر الإمام الراحل، إنّها أنفاسه التي جعلت الناس تنزل إلى الشارع بكلّ هذه العظمة"!

• الشخص المستقلّ أيضًا مؤثّر في العالم على مستوى العمل

• على مستوى العمل الشخص المستقلّ مؤثّر في العالم بإرادته وعزمه. على أنّ هذا الأثر في العالم مقيَّد بالأهليّة، والموهبة، والتقدير الإلهي، غير أنّ الله عزّ وجلّ يُنْفِذ إرادته هو عن طريق إرادة أمثال هؤلاء من عباده. لاحظوا الضجّة التي حصلت في بلدنا وفي المنطقة في إثر استشهاد القائد سليماني؟! وانظروا ما تركه الشهيد حُجَجي من أثر في العالم، حيث كان تشييع جثمانه أضخم تشييع في طهران بعد تشييع القائد سليماني. وعلى الرغم من أنّ هذا لوحده ليس معيارًا، لكن ما أردتُ قوله: أيّ قلب كان يحمل أمثال هؤلاء، وإلى أين كانوا قد وصلوا؟!
• وقد كان للبعض أيضًا أثرٌ لكن لم يكونوا مشهورين، كما أنّ آثار البعض الآخر كانت أعظم من شهرتهم؛ فلقد رأيتم لسماحة الإمام الخميني(ره) أثرًا تركَه اسمه الثورة كما أنّ له آثارًا أخرى أيضًا، لكن ربما له آثار أكثر من تلك بكثير لا نعلمها. سماحة الشيخ بهجت(ره) كانت له آثار كثيرة لا نعرفها.

• لاحظوا أي أثر تركه الإمام الحسين(ع) والعقيلة زينب(س) في العالم؟!

• كن مؤثّرًا في العالم، وإنّ الله تعالى يأذن لكلّ أمرئ بأن يكون ذا أثر في العالم بقدر وسعه. ففي كثير من الأحيان لا يؤثّر الله جلّ وعلا في العالم بشكل مباشر، وإنّما يفعل ذلك بواسطة عباده المطهَّرين. الإمام الحسين(ع) كان الأكثر تأثيرًا في العالم. والسيّدة زينب(س)، مع كلّ ما أوتيتْ من شهرة، ومن حضور فاعل في الشعر الحماسي وفي مجالس الرثاء، ما زال أثرها مجهولًا للجميع! إنّها ابنة أمير المؤمنين(ع) التي كانت مفخرة لأبيها.. بسبب اسم مرقدها تأسّستْ جيوش صاحب الزمان(عج)الإقليميّة.. أَمِن البساطة أن يكون لاسم امرأة كلّ هذا الأثر في العالم؟! أن يكون لاسم مرقدها الطاهر هذا الحجم الهائل من الأثر في العالم؟!
• سيشهد التاريخ أنّ جيوش صاحب الزمان(عج) تأسّستْ باسم مرقد السيّدة زينب(س)، فلم يصل الدور إلى مرقد الإمام الحسين(ع) حتّى! كن ذا أثر في العالم، سواء أعرَفك الناس أم لم يعرفوك. على سبيل المثال: من ذا الذي يعرف ما كان لآية الله حق شناس(ره)، الذي كان يسكن طهران، من أثر على أهالي طهران؟ وما أدرانا أنّنا على فُتات مائدة مَن نقتات الآن، وما الدعوات التي تحُفّ بنا؟
• كما قد أُشير سلفًا فإنّ المرحلة الرابعة في طريق الاستقلاليّة هي ضبط العمل والسلوك؛ وهو أن تنبذ السلوك الذي يجعلك تتعلّق به ويسلبك استقلاليّتك. والآن، في المرحلة السابعة، عدنا ثانية إلى ميدان العمل، لكنّنا في هذه المرة نسعى للتأثير، على المستوى العملي، في العالم وأهله.
• نماذج من الروايات التي تبيّن أنّ الدين يبغي عزّة الناس واستقلاليّتهم
• ودعوني الآن أتلو عليكم بضع روايات تبيّن نماذج من هذه الاستقلاليّة في الدين؛ على سبيل المثال تعرض بعض الروايات الدين عنصرًا للاستقلاليّة، وهو ما روي عن أمير المؤمنين(ع) قوله: «الدينُ عِزٌّ» (كشف الغمة/ ج2/ ص346)، أو قوله: «وَجَعَلَهُ [الدين] عِزًّا لِمَنْ تَوَلّاه» (الكافي/ ج2/ ص49).
• ثمّة أحاديث تشير إلى أنّ الدين يبغي عزّة الناس واستقلاليّتهم. مثلًا تَعاهَد رسول الله(ص) وستّة من أصحابه، ذكرَ التاريخ أسماءهم، على عهد رواه أحد هؤلاء الستّة، وهو أنّه(ص) أراد أن يبايعه هؤلاء الستّة بيعةً خاصّة، وهي أن لا يتأثّروا بملامة أحد من الناس. يقول: فبايعناه، ثمّ إنّ أحدنا جاء النبيّ(ص) بعد مدّة فطلب إليه أن يعفيه من بيعته هذه لأنّه يتأثّر بملامة الناس وسوف يكون مدينًا للنبيّ بذلك، فأعفاه رسول الله(ص) منها؛ «عن سَهْل بنِ سَعدٍ قال: بايَعتُ النَبيّ(ص) أنا وَأبو ذَرٍّ وَعُبادةَ بنَ الصامِتِ وَأبو سعيدٍ الخُدرِيّ وَمُحَمَّدُ بنُ مَسلمة وسادسٌ على أَنْ لا تأخُذَنا في الله لومَةُ لائِمٍ، وَأَمّا السادسُ فاستَقالَه فَأَقاله» (كنز العمال/ ج1/ ص324/ ح1516).
• لاحظ ماذا يصنع أولياء الله حين يرغبون في تربية شخصٍ ما تربية خاصّة، يقول له: عاهدني على أن لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا تقع تحت تأثير أحد... هذا هو ديننا العزيز، ديننا الرائع، العظيم!
• ودعوني أحكي قصّة أخرى: ربيعة بن كعب شخص فقير كان خادمًا لرسول الله(ص)، يجلب له الماء، ويسأله أن يدعه يقوم على خدمته. بعد سبع سنين خدمة قال له النبي(ص) [ما مضمونه]: خدَمْتَني سبع سنين، ألا تسألني حاجة أقضيها لك؟ لك عندي حاجة مقضيّة. فقال ربيعة: اصبر إذن حتّى أفكّر في ما أريد. فذهب وفكّر، ثمّ جاء لرسول الله(ص) فقال: أيمكن أن تسأل الله تعالى أن أكون معك في الجنّة؟ فقال له النبيّ(ص) [ما مضمونه]: شخصٌ علّمَك هذا، أم استنتجتَه أنت بنفسك؟
• لاحظوا، كم لـ"بنفسك" هذه من قيمة! لا ترغمني على قول: ليس لما تتعلّمه هنا فائدة كبيرة، فكّر أنت مليًّا: ما الذي عندك أنت لتقوله لربّك؟
• قال ربيعة: بل فكّرتُ أنا بذلك. فكأنّما استوضحَه رسولُ الله(ص) فقال: رأيتُ أنّ كلّ ما آخذه منك سيزول، أَفضَل ما يبقى هو ما يكون في عالم الآخرة، وأفضل ما في عالم الآخرة المكان الذي أنت فيه. يقول: ففكّر رسول الله(ص) هنيهة، ثمّ وعدَه بذلك لأنّه استنتج هذا بنفسه، (وإنّ الله عزّ وجلّ أيضًا يتعامل مع ابن آدم بهذه الطريقة) كلّ ما في الأمر أنّ رسول الله طلب إليه شيئًا وهو: "كثرة السجود"؛ أي: القضية الآن تخصّني، فلقد عاهدتك على أن أصطحبك، فقط ساعدني بكثرة السجود؛ الرواية: «عَن رَبيعَةَ بنِ كَعبٍ قالَ: قالَ لي ذاتَ يَومٍ‏ رَسولُ اللهِ(ص): يا رَبيعَةُ، خَدَمتَني [سَبعَ] سِنينَ أَفَلا تَسأَلُني حاجَةً؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَمهِلني حَتّى أُفَكِّرَ. فَلَمّا أَصبَحتُ وَدَخَلتُ عَلَيهِ قالَ لي: يا رَبيعَةُ، هاتِ حاجَتَكَ. فَقُلتُ: تَسأَلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَن يُدخِلَني مَعَكَ الجَنَّةَ. فَقالَ لي: مَن عَلَّمَكَ هَذا؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما عَلَّمَني أَحَدٌ، لَكِنّي فَكَّرتُ في نَفسي وَقُلتُ: إِن سَأَلتُهُ مالًا كانَ إِلى نَفادٍ، وَإِنْ سَأَلْتُهُ عُمُرًا طَويلًا وَأَولادًا كانَ عَاقِبَتُهُم المَوتَ. قالَ رَبيعَةُ: فَنَكَسَ رَأْسَهُ ساعَةً ثُمَّ قالَ: أَفعَلُ ذَلِكَ، فَأَعِنِّي بِكَثرَةِ السُّجود» (الدعوات (للراوندي)/ ص39).

• اجعل هذه القصّة أساسًا لبكائك ورثائك

• نقلتُ هذه الحكايا القليلة الموجزة لتعرف كم يوْلي دينُنا للاستقلالّية من أهمّيّة. كانت المرحلة الأخيرة من الاستقلاليّة التأثيرَ في العالم، ودعني هنا أنقل لك قصّة عن المرحوم الشاه آبادي اجعَلْها أساسًا لبكائك ورثائك، اِبكِ للقضايا التي لا يبكي أحد لها بسهولة. على أنّ الموضوع ليس موضوعَ بكاءٍ وحسب، المهمّ فيه هو حرقة القلب، والآه التي تُلهِب الأحشاء.
• كان آية الله الشاه آبادي(ره) واحدًا من الرجال الكاملين، ولم يكن الإمام الراحل(ره) يقول فيه أقلَّ من عبارة "روحي له الفداء". لا يعلم أحد ما المقام الذي كان يحتلّه، لكنّه كان قد وصل مقامَ التأثير. ذات يوم ذهب المرحوم الشاه آبادي(ره) إلى حمّام السوق، وهناك رآه أحد ضبّاطِ الدَرَك زمانَ الطاغوت وهو يضع عِمَّته على رأسه في المنزع، فسخر منه بوصفه أحد علماء الدين، فلم يرُدّ عليه الشيخ، وذهب لحال سبيله، ثمّ دخل هو الحمّام واستحَمّ وخرج. في اليوم التالي وحين كان الشيخ في المسجد رأى جنازة يشيّعها الناس، فسأل عن الميت، فقيل له: إنّها جنازة ضابط الدرَك ذاك الذي أهانك بالأمس، فاغتمّ الشيخ الشاه آبادي لذلك.
• يقول نجل الشيخ في مذكّراته: "كان الشيخ الشاه آبادي، حتّى آخرَ عمره، يغتمّ كلّما ذكَر هذه الحادثة. سألناه مرّةً: لماذا تغتمّ كلّما ذكرتَها؟ قال: ليتني أجبتُه حين أهانني، ولو فعلتُ لما كان الله سيعاقبه، لكنّني أَوكلتُ أمرَه إلى الله، فعاقبَه على الفور!"
• لكن كيف مات الرجل؟ قال حين خرج من الحمام: "طرَفُ لساني يؤلمني". واشتدّ الألم جدًّا حين بلغ المنزل، فأخذوه إلى المستشفى، وعند المساء فارق الحياة! في الخبر: لا تُهِنْ أحدًا فلربّما كان وليًّا من أولياء الله، وإلا فسيعاقبك الله في الحال؛ «وَخَبَأَ أَولِياءَهُ في خَلقِهِ فَلا تُحَقِّرَنَّ أَحَدًا فَلَعَلَّهُ ذَلِكَ الوَلِيّ» (كشف الغمة/ ج2/ ص148).
• ودعونا ننتقل بهذه القصّة بالذات إلى كربلاء. يا حبيبي يا حسين.. قل لي، في كربلاء حين كنتَ تدعو ما الذي كنت تُتَمتِم به مع الله تعالى؟ لقد قتلوا عبد الله بن الحسن على صدرك، لكنّ السماء لم تنطبق على الأرض!!... لعلّك كنتَ تبتهل إلى الله أن: إلهي، لا تُنزِل على القوم بلاءَك... كتلك اللحظة التي رفعتَ فيها ولَدَك عبدَ الله الرضيع بيدك وناديتَ: «هَوَّنَ‏ عَلَيَّ ما نَزَلَ بي أَنَّهُ بِعَيْنِ الله» (اللهوف/ ص117)؛ أي: ما دمتَ يا ربِّ تنظر إليَّ، فإنّي أَتحمَّل المصاب؛ ما معناه: لا تُنزل البلاء يا ربّ...